محطات ثقافية في حياتي (1)

                                 محطات ثقافية في حياتي

                                                                الناصر التومي

                                     

                                 

   مسقط رأسي بولاية صفاقس، لكن المرحلتين الابتدائية والثانوية كانتا  بالعاصمة، كنت في الأثناء شغوفا بالمطالعة في كل المجالات الأدبية. بعد انخراطي في حقل الشغل لازمني الحنين إلى اختيار خير جليس ألا وهو الكتاب.

  وطبيعي أن يفرز الشغف بالمطالعة، بعض محاولات الكتابة على صفحات جريدة الصباح في أول السبعينيات، تلتها محاولات أخرى بصحيفة المسيرة قبل اندثارها، فكنت أنشر في الثانية بانتظام نسبيا، أقاصيص مع مقالات في المسرح. بعد توقف هذه الصحيفة عن الصدور دب في شيء من الخمول، وخاصة بعد محاولاتي القصصية التي لم تجد طريقها إلى النشر، لكني آمنت عبر رحلتي مع غذاء الروح والفكر أن الإصرار والثبات على المبدإ هما دعامة النجاح، وأن العوائق التي قد تعترضني بين معاناة وقلم وقرطاس، وبين خيبة أمل في نشر هذا الإنتاج من قبل وسائل النشر، لهي جزء من الصراع الحتمي الذي يتعرض له أغلب الكتاب المبتدئين.

 كان يقيني  أنني لن أحقق ما أصبو إليه إلا بعد الخوض في الملحمة الفكرية والثبات على  المبدأ، عندها فقط سيكون للنجاح قيمة، فكبار الأدباء لم يجدوا في بداية حياتهم الأدبية الاعتراف والسبيل إلى النشر إلا بعد سنوات من الانتظار بما في هذا من إحباط، وكان لا بد من مراجعة لأدواتي الفنية الأدبية ومقارنتها بما يفرزه إنتاج جيلي من الشبان، وكانت ثمرة ذلك قصةـ إصرار ـ التي نشرت بمجلة الفكر وكأنها كانت آية لما كنت أؤمن به، وتلتها ـ لعبة الأقدارـ  و كل شيء يشهق ـ ولعنة الوشاح المقدس ـ. فكانت مجلة الفكر أكبر مشجع لي، حتى إني حرصت على إفردها بأحسن إنتاجي القصصي، وأعدّ هذا اعترافا بالجميل لهذه المجلة التي ساعدتني على الخروج في زمن سابق ولاحق من دوامة اللانشر.  

 اطلعت على ما أفرزته قريحة أدباء كبار كمحمد عبد الحليم عبد الله، ويحيى حقي، والبشير خريف، ومحمد العروسي المطوي ومصطفى الفارسي وغيرهم، وانبهرت بشخصيات قصصهم الذين يعيشون بيننا في أحيائنا وريفنا، مآسيهم مآسينا وأفراحهم أفراحنا، عندها انجلت عني غشاوة محاكاة الكتّاب المشارقة أو الغربيين وقد هيمنت على تصوراتي أمدا، وعزمت بوعي على  اتباع أثر الذين جسوا نبض الإبداع وعرفوا مأتاه من واقعنا نحن لا غير.

 أقيمت لي عديد الحوارات المكتوبة خاصة، تمحورت حول تجربتي القصصية منذ البدايات، وعلى امتداد أربعة عقود. ارتأيت باختزال تقديم تلخيص للأسئلة التي تناولت كتاباتي والإجابة عنها، مع تبيان ما تعرضت له من نقد جاء ضمن الدراسات التي تناولت بعض مجموعاتي، وذلك للوقوف على خصوصية تجربتي القصصية، التي جاءت طي خمس مجموعات قصصية هي على التوالي ـ كل شيء يشهق ـ الأشكال تفقد هويتهاـ الأقنعة المحنطة ـ حكايات من زمن الأسطورة ـ حدث ذات ليلة ـ وقد  بلغ  مجموعها ثمانيا وستين قصة. إثر صدور مجموعتي القصصية الأولى ـ كل شيء يشهق ـ حاورني الأديب والصديق أبو بكر العيادي بجريدة العمل خلال سنة 1982 عن سبب اهتدائي لفن القصة فكانت إجابتي كالتالي:

 ـ" تم ذلك بعد سنوات من المطالعة الجادة في كل الفنون تقريبا، من قصة ورواية ومسرح وشعر، غير مهمل للبحوث والدراسات الجادة، ومتتبعا نشأتها وتطورها عبر عصور الكلاسيكية والرومانسية، وما أفرزته النهضة الأدبية في القرنين الماضيين من مذاهب متعددة، وغير ناس لدور الفلسفة في تلقيح هذه الفنون بعطاء متجدد.

 في بداية السبعينات كانت محاولاتي محتشمة في القصة، وقد أهملتها في مجموعتي ـ كل شيء يشهق ـ لكنني شغفت في الأثناء بفن المسرح، واقتنيت مكتبة محترمة، وحاولت كتابة المسرحية فكانت الحصيلة ثلاثة نصوص مسرحية لم تحظ بتزكية لجنة القراءات لأسباب لا مجال لذكرها، وأثناءها اطلعت على أغلب التجارب القصصية متمعنا في الأدوات الفنية المتبعة في هذا الفن، وكان النصف الثاني من السبعينات هو المنطلق الجديد لقصصي التي أدرجتها  في مجموعتي الأولى، فكان اختياري لفن القصة الذي كان أول فن اهتديت إليه واهتممت به وحافظت على العطاء فيه".

 لم تأت كتابتي للقصة القصيرة في البداية بعد اطلاع متين  لجنس القصة القصيرة الأدبي، ولا على  عناصره الأساسية، كالوحدات الثلاث، وحدة الموضوع ووحدتي الزمان والمكان، بل أنّ كل ما كان يشغلني هو الحكي عن حدث أو شخصية ما لا يكونان غريبين عن واقعنا. ولعلّي تأثرت بالخرافة منذ صغري، حكايات الأمهات والخالات، حيث تبدو الشخصيات والأحداث عادية، لكن تقتحمها عناصر غريبة وعجيبة فتتحول من مشهد رتيب إلى مشهد مدهش مثلما هو الشأن مع حكايات ألف ليلة وليلة، وأذكر بعد ابتعادي عن خرافات العجائز أنني وقعت وأنا لا أزال في التعليم الابتدائي على مجموعة من سير الأولين، سيف ابن ذي يزن، والزير سالم، وعنترة ابن شداد، وأبناء عنترة، وحكاية سيدنا علي ورأس الغول،والسيرة الهلالية، وغيرها مما لم أعد أذكر عناوينها.

 لما كتبت في البداية بعض الحكايات المتداولة لدى كبار السن كانت مجرد نقل لما سمعته، فنشر البعض منها في بريد القراء، وأهملت إدراجها ضمن مجاميعي القصصية، ولعل هذا المناخ الخرافي الحكائي صاحب محاولاتي الجادة في كتابة القصة القصيرة، فلم ألتزم بالوحدات الثلاث في أغلب ما كتبت لا عن قصد، وإنما كان ذلك منّي على السجية، محاولا إضفاء التشويق والخاتمة المفاجئة لشد القارئ.
يتبع

تعليقات