محطات ثقافية في حياتي (2)

انتسابي إلى نادي القصة.

بقلم : الناصر التومي

  قضيت كامل عشرية السبعينيّات وأنا لا أسمع إلا لصوتي، أكتب قصة أقدمها إلى جريدة يومية أو أسبوعية أو مجلة ثقافية، وأنتظر النشر بفارغ الصبر، فأطرب للنشر وأحزن لعدمه، وقد يطلع أحد الأصدقاء على إحداها فيهنئني، لكني ما كنت مقتنعا بجودة ما أكتب ما لم أنتسب إلى فضاء ثقافي مختص بالسرديات لتقييم عملي، وكنت أسمع عن نادي القصة لكن رهبة كانت تحول دوني واقتحام فضائه لسنوات، إلى أن شجعني المرحوم الشاعر عبد الحميد خريف على ذلك وكان بالنسبة إليّ يوما مشهودا ما سبق أن مر بي ولم يتكرر إلى اليوم.

 كانت أمسية رهيبة وأنا أواجه جهابذة كتاب القصة، وكان كل شيء فيّ يرتجف هلعا، الفضاء قاعة مستطيلة، تسلقت حيطانها أعداد مجلة قصص وبعض صور الأدباء الفوتغرافية والكاريكاتورية، وامتدت في الوسط مناضد على طول القاعة، ويتصدر المكان صاحب حليمة محمد العروسي المطوي، بينما يصطف أمامه على جانبي المناضد أعضاء نادي القصة ممن سبق أن تعرفت عليهم في غير هذا المكان، ومن قرأت لهم بعض الأعمال.

 كان شكلهم وهم ينتظرون قراءة قصتي مخيفا رغم ملامحهم الوديعة، ولقد أيقنت بعدها أن جزعي من ذلك الموقف هو الذي غير هذه الوداعة إلى وحشية ذئاب لا هدف لها إلا نهشي دون هوادة.

 تسلح فرسان القلم بكل فنيات النقد، واستلوا أقلاما يخطون بها ملاحظاتهم بين الحين والآخر، بينما كان بعضهم يحركون رؤوسهم علامة عدم الرضا. وبانتهاء قراءتي لقصة ـ العسل المر ـ والنظر خلسة إلى وجوههم، تبين لي أني سأواجه ألسنة شحذت لتعرية أوهامي، وبإشارة من رئيس النادي ابتدأ النقاش، فسلطوا على النص كل ما أوتوا من دقة في التحليل، واطلاع على مختلف المذاهب النقدية، مضيفين انطباعاتهم الخاصة، ببلاغة وفصاحة مكتسبتين من البعض ومتكلفتين من البعض الآخر، وعلى إثر كل تدخل من أحدهم كنت أنتظر من ينصفني، وذهبت أمانيّ أدراج الرياح، فقد انسابوا جميعا في تعداد السلبيات التي تلبست بالمضمون والشكل، إضافة إلى التراكيب اللغوية، وكلما توالت الملاحظات السلبية وتلاحقت، شعرت بالضمور إلى حد الذوبان، فانخرطت ألوم  نفسي على تسرعي بعرض إنتاجي القصصي على أعضاء هذا النادي قبل الوقوف على طبيعة نشاطه و التأكد من سلامة النص من كل عيب.

 خيّل إليّ بعد المناقشة أن النظرة السلبية ستصحب حضوري الشخصي، لكن تبين أني كنت واهما، وإذا بأصحاب الملامح العبوسة العدائية تتحول إلى ملامح وديعة، وإذا بالجلسة الأدبية الساخنة تصبح ركحا للتفكه، وإذا بي بينهم كأي صديق حميم.

وأنا أغادر فضاء نادي القصة تملكني إحساس غريب لم أعهده من قبل، هو بين الانشراح والتأزم، بينما صدى هتاف يملآ كامل كياني بوجوب  مواصلة المسيرة مهما غالى أعضاء النادي في الحكم على إنتاجي القصصي... وها أنا اليوم أكاد أغلق العقود الأربعة من الانتماء إلى نادي القصة، و الإحساس يسكنني بأنني ما زلت تلميذا فيه ولا أظن أني سأتخرج منه.

الواقعية التي اخترت.

  ضمن حوار بالملحق الأدبي لجريدة الرأي العام استفسرني أحدهم عن دور الواقع في كتاباتي، فكانت إجابتي أن ما أعبر عنه هو قضايا معيشة، أستمد مواضيعها من الحياة العادية، فأنا أمثل عصري ومجتمعي الذي أنا فرد منه، عندما أصوغ قصصي أتنفس الأرض التي أعيش على أديمها بكل تناغماتها وتناقضاتها، تلك التناغمات والتناقضات المعلومة من الجميع، ولكن مع إضافة شيء من الخيال، وشيء من العجائبية والغرائبية المضفية للاعادية التي تتماشى وأحداث القصة ولا تطغى عليها، وبهذه التطعيمات الخارجة عن الواقع المعيش تترسخ القصة بحافظة المتلقي.

 قناعتي أن  الواقعية بحكم هيمنتها على طبيعة الحياة البشرية، فهي الأجدر لفهم المتلقين من عوام ومثقفين ونخبة، إنها التيار المقبول من الجميع، وإن فضل النقاد الأكاديميون إمكانية التجنيح إلى حد الانسلاخ من الواقعية كليا بدعوى التجريب والتجديد، فإنني لا أكتب لهؤلاء، بل لأغلبية القراء.

   إن كنت من أنصار الواقعية، فإني أؤمن أن التجديد يكون من خلالها، من داخلها، ويمكن الاستئناس بالتيارات الفكرية الأخرى كالرمزية والطبيعية والسريالية والرمزية تطعيما للواقعية، مثلما هو الشأن عند اسغلال العجائبية والغرائبية، وهذا حسبما يمليه النص ويتحمله، ففي نظري لا بد أن تكون الواقعية هي السيدة والباقي يدور في فلكها تطعيما لها.

 أحيانا يوجه لي بعض النقد فيما يخص تشبثي بالواقعية وجعلها عمادا لكتاباتي، وقد يحاول بعضهم أن يلصق بي تهمة الكلاسيكية التي يحاول عديد الكتاب التملص منها وإنكارها وعدّها سبة، لكني ما تنكرت للواقعية، ولا تملصت من الطرح الكلاسيكي في كتاباتي لمحاولة الظهور في مظهر المجدد، فبالعكس لقد دافعت عن الواقعية وعن الكلاسيكية لأنهما النمطان الوحيدان اللذان تغلبا على كل التيارات الأخرى عبر الأزمان، وكل القصص الخالدة هي التي كانت على هذا المنحى، وأغلب الأعمال التي أوغلت في التجريب والتجديد لا تجد حظها إلا لدى النقاد، و فشلت الفشل الذريع مع بقية القراء وهم الأغلبية، فلم تفلح في لفت انتباههم، بل ناصبوها العداء، وعدوها مجرد تداعيات وهلوسات، لما تتسم به من عسر الاستيعاب، فالقارئ يحبذ فهم القصة من أول قراءة، وخاصة في هذا العصر المتسرع، تلك القصة التي تتسم أحداثها ومراميها بالوضوح التام، وتنحت ملامح شخوصها في ذهن القارئ، لذلك ما انجررت وراء هذه الموضة، وحافظت على عناصر القصة الكلاسيكية كالحدث البارز، والتشويق والتصعيد الدرامي والخاتمة المتفجرة ألما أو المنفرجة أملا.

قد لا أحافظ أحيانا على وحدتي الزمان والمكان في بعض القصص، فأكون محل مساءلة من بعضهم، وخاصة من صديقي يوسف عبد العاطي الذي ركز على وحدة الزمان أثناء تقديمه للمجموعتين القصصيتين "الأشكال تفقد هويتها" و"الأقنعة المحنطة" ، فتكون إجابتي بأن أحداث القصة هي التي تفرض علي أحيانا هذا القفز، والذي لا أراه مخلا بأي عمل قصصي، إلا إذا وضعناه في قالب القصص الغربي الحديث، وحتى أن أغلب فحول كتاب القصة القصيرة الغربيين لم يحترموا هذه الوحدة وتمردوا عليها، فالأديب الفرنسي ـ موباسان ـ في قصته القصيرة "العقد" ينهي أحداثها بعد عشرين سنة من بدايتها تقريبا، والقصص العربي لا يرى في القفز على الزمن خللا، بل هو عادي بما أن الأحداث قد تمر بفترات زمنية مختلفة، وكذلك الشأن في تعدد الأمكنة، وقد كتبت عشرات القصص التي حافظت فيها على وحدتي الزمن والمكان وعدم القفز بها من زمن إلى آخر أو من مكان إلى آخر، لأن تيمات تلك القصص تتماشى وهاتين الوحدتين.

يتبع

تعليقات