محطات ثقافية في حياتي (3)

الأدب مأساة أو لا يكون

بقلم : الناصر التومي

 منذ البداية لا أعتبر الكتابة في غير المأساة مجدية، فالمأساة بنيت عليها الأساطير القديمة وخاصة الإغريقية منها، وخصوصا ما ضمه هوميروس في ملحمتيه الإلياذة والأوديسية من أحداث دامية، وحروب، واقتتال بين البشر، تشارك فيه الآلهة بنسبة كبيرة، حيث ينتصر كل إله لفئة، تصريفا للأقدار، ومن تلك الأحداث الدامية وضع كتّاب المسرح الإغريقي أروع المسرحيات، أسخيلوس، سوفوكل، يوربيديس، وكذلك كانت الشأن مع أساطير أقصى الشرق وخاصة ملحمة الهند الكبرى "الماهابهارتا " وأثناء عصر النهضة ألف مسرحيون كأبسن وشكسبير أروع المسرحيات المستمدة من الإرث التراثي الإغريقي والروماني أو من وقائع عصر النهضة وأحداثه ، وحتى الأساطير العربية والسير فقد  شهدت ملاحم دامية اصطلى بلظاها خلق كثير، وسارت على نهجها الخرافة والحكاية الشعبية، وأغلبها مستمدة من المأساة دون الملهاة.

ولعل المأساة هي التي تستطيع أن تصمد عبر الزمن، فيبقى أثرها متوهجا، تتناقلها الأجيال سواء شفاهيا أو كتابة لاحقا، فتأثيرها في النفس كبير، لذلك فهي باستمرار منجم لمعدن ثمين لكافة المبدعين من مسرحيين، وكتاب رواية وقصة قصيرة.

اشتهر الأستاذ  محمود المسعدي بمقولته ـ الأدب مأساة أو لا يكون ـ وأرجع بعضهم هذه المقولة إلى العهد الإغريقي، ولا يهمنا هنا إلا أن هذه المقولة تترجم حقيقة المأساة في الأدب، والتي وإن لم أفكر فيها عند وضعي لأغلب القصص القصيرة والروايات، فقد لامست حقيقتها وصدقها حسب ما سجله لنا الأدب العالمي عبر العصور، إضافة لميلي لنوعية القصص ذات البعد المأساوي، وقد لاحظ الدكتور عمر بن سالم وقد أدرج مجموعتي القصصية " الأشكال تفقد هويتها" ضمن سلسلة أحسن القصص بدار سحر للنشر، أن أغلب القصص انتهت بموت الشخصية الرئيسية دون أن ألاحظ أنا ذلك أو قصدت هذا المنحى المأساوي.

 من الأسئلة التي وجهت لي و تكرر التساؤل عما اتسمت به أقاصيصي من استسلام لمشيئة الأقدار مما جعل الشخصيات تنحو إلى السلبية والتخاذل. فكانت إجابتي أن الصراع حتمي وهو مبدأ لا يمكن الحياد عنه، والسلبية الانهزامية  في الحياة طاعون وجب الحد من سطوته، لكن مواصلة الصراع في قناعتي لا يعد مقدسا، بل يمكن الكفر به والخروج عنه، فالأحاسيس لا تخضع لبرمجة سابقة، وإن صادف ووجدت فهي في الغالب غير صادقة، لأنها تتفاعل بدوافع خارجية وجبرية إن صح التعبير، والفن براء من هذا، فمن الغبن تقييد الفن بكلمات قيلت من فرد لا يمكن أن يملك الحكم النهائي في أي قضية أدبية، سواء أكان مبدعا، أم منظرا أم ناقدا أكاديميا.

 الشخصيات التي تسعى في ظل القدر، تتحرك في دائرة لا يمكن الخروج عنها وإن كنا لا نعلمها، ولا نعلم ما مدى اتساع هذه الدائرة، وربما تؤدي بنا إلى حد الاختناق والموت، فالصراع من أجل البقاء يصحبه يقين راسخ أن ما هو آت آت، لكن الكاتب خالق هذه الشخصيات من العدم ومحركها كيفما شاء قد يكون مدفوعا وجدانيا إلى اختيارات تجعل هذه الدمى عاجزة فترمي المنديل وقد تواجه الموت، وقد يرى الكاتب أن هذا المناخ المحبط والمأساوي الذي ليس غريبا عن عالمنا، يبعث في حد ذاته رسالة إلى المتلقي تشحنه إنسانية ورأفة كان يفتقدهما، أو لم يكتشفهما في نفسه، فيزيل عنه بعض أدران العنجهية والجشع والكبرياء. والكاتب غير ملزم بأن يكون نسخة مسخا لبقية الكتاب، فالقناعات فسيفساء لا يمكن حصرها في إطار واحد مثل مواصلة الصراع وعدم الاستسلام، فقد ينحو الكاتب إلى ما يخالف فيه الآخرين، إما لحالة نفسية يمر بها الكاتب تقصر أو تطول، إما عن قصد كما أسلفنا لخلق مناخ أكثر إنسانية باستغلال المأساة وسيلةً لخرق جدران صلبة في الكائن البشري.

من خلال مجموع القصص القصيرة التي وضعتها خلال مسيرتي الأدبية والتي قاربت السبعين قصة، يلاحظ القارئ أن جلها تهيمن عليها القتامة والسوداوية والتشاؤم  وعجز الخير وسطوة الشر، والموت لأغلب الشخصيات حسب تعبيرات ناقدي ، كمحمد بن رجب ويوسف عبد العاطي، فأجدني لا أكاد أجد مبررا لهذا المنحى الذي لم أختره عن سابق تدبير وقصد، وإنما باحت به الأحداث التي أوردتها، وطبيعة الشخصيات التي هي في الغالب مطحونة مسحوقة، تمر بأزمات إما مادية أو نفسية، تنتهي أحيانا بالموت، ولعل ذلك يعود إلى أنني لا أعرف إلا هذه الأوضاع البائسة المتأزمة، فهي ملازمتي على مراحل حياتي فطبعت في تأثيراتها، ولما بدا لي أن أعبر من خلال هذا الفن فكانت السيادة لها والهيمنة على اختياراتي القصصية، ولا ضرر في ذلك في نظري أن يختص كاتب في مثل هذا المنحى سواء عن قصد أو دونه، ويمكن من خلاله أن يستنتج النقاد وعلماء النفس ما قد يثري الجانب الأدبي وكذلك النفسي، وأذكر أني أجبت في حوار مع الصديق الصحفي محمد بن رجب بمناسبة صدور راويتي الصرير، بأن كتاباتي  في مجموعها يلوح منها المنحى المأساوي، أي إنها لا تلج إلا النقاط السوداء في المجتمع، كالسقم، والإحباط، والظلم، والعقم، والموت. فثمة هاجس في داخلي يضخم لي تأزمات الواقع إلى حد الإصابة بكوابيس تحول دوني والنوم الهادئ واليقظة المريحة إلا بعد كتابة القصة التي شغلتني، عند ذلك فقط أستريح نسبيا، وقد أرجع هذا المنحى لطفولتي المضنية، وهي تعكس انطوائي المبالغ فيه أحيانا، والركون إلى الصمت، وتظهر هذه الحالات في شخصيات قصصي، وقد أشارت إلى هذه الظاهرة هيام الفرشيشي في نقدها لمجموعة ـ الخطاب الممنوع ( وقد استقى القاص الناصر التومي مواضيعه من المجتمع التونسي غذاها بتجاربه وتجارب من عرفهم من أجل نقد المجتمع، وخاصة البطش السياسي، لذلك كانت نهايات القصص قاتمة، فهي تعرض رأيه حول مشاكل الحياة وآلام هذا الطريق السياسي الثقافي المستعصي).

وقد أجعل الشر يهيمن على الأحداث  إذ  ينزوي الخير مهزوما مدحورا، وهذا الوضع فرضته الأحداث التاريخية عبر الأزمان و حتى تلك التي نعيشها الآن، فالخير نفسه قصير لا يستطيع الصمود، سرعان ما ينهار لأنه مقيد بضوابط ويترك الساحة لعدوه مفضيا أمره للقدر الذي سيرجع له حقه، بعكس عدوه الشر المنسلخ من كل القيود و الذي  لا حدود لتحركه وسلطته وهيمنته، وهو يستعمل كل الأسلحة حتى القذرة منها، غايته تحقيق مراده مهما كانت الوسائل والأضرار التي يلحقها بغريمه، لذلك فإن أغلب الحكام  يكون جانب الشر هو الطاغي فيهم من الخير، لذلك يهيمنون السنوات الطوال بعكس الحكام الذين كان جانب الخير فيهم أقوى من الشر، فهؤلاء سرعان ما يصرعون لضعفهم في منازلة الأعداء.

تعليقات