معجم بورديو : حتمية

حتمية     Déterminisme                                                                                           
تعريب : الدكتورة الزهرة براهيم

غالبا ما خصصنا لبورديو رؤية حتمية للعالَم الاجتماعي الذي يشمل الهابيتوس، وعلى وجه الخصوص، من حيث إشراكه لتصور الموقع (في الحقول وفي الفضاء الاجتماعي)، بوصفه حجزا للفاعلين في مسار ضروري وفي مصير ما. صحيح أنه في استقصائه للعالَم الاجتماعي، قد فَعَّل السيرورات التي ترهن عزما أقوى لدى الفاعلين الاجتماعيين. وإذا اكتفينا بنموذجين اثنين، نستطيع أن نستحضر تحليل «تأثيرات القدر» التي يمارسها النظام التعليمي على المراهقين، أو تلك الخاصة بالتقليص شبه المحتوم للممكنات المعروضة في &بؤس العالم& لكن أن نخلط هذه الدراسات التجريبية مع إثبات فلسفة حتمية، بل جبرية، فإن هذا يمثل خطأ مبتذلا: « إن الدرجة التي يُعتبَر بها العالَم حتميا حقيقة، يذكرنا بورديو، ليست مسألة رأي، وبصفتي عالِم اجتماع، لست مناصرا لا لـ &الحتمية& ولا لـ &الحرية&، ولكن لأكتشف الضرورة، إن هي موجودة، ومكان وجودها»1. وعلى أية حال، إذا كان هنالك أمر قد اقتنع به بورديو جيدا، فهو أن إنكار الواقع لن يفيد في تغيير مجرى الأشياء، بل على العكس من ذلك، فلم يكن يقينا مستعدا للتخلي عن هذه الإمكانية التي تمنح معنى لالتزامه السوسيولوجي. إن الاعتراف بوجود ثقل «التاريخ الملتصق بالأشياء» لا ينبغي الخضوع له، فالحرية لا تتوقف على أن ننكر بطريقة سحرية هذه الالتصاقات ولكن أن نعترف بها من أجل أن نتصرف عن دراية بالأسباب. فقبل أن نسائل القناعات الأنثروبولوجية لعالِم الاجتماع بشأن تحديد السلوكات الإنسانية، يكون مناسبا، علاوة على هذا، التذكير بأن الحتمية المنهجية هي سابقة على كل إجراء يسعى إلى أن يكون علميا: «ككل علم، يقبل علم الاجتماع مبدأ الحتمية المتفق عليه كشكل لمبدأ العلة الكافية. فالعلم الذي ينبغي أن يفسر ما هو، عبارة عن مُسَلَّمة من هنا، ولو أنه لا يوجد شيء من دون علة وجود. فعالِم الاجتماع يضيف اجتماعي:  من غير أن توجد علة اجتماعية بشكل خاص. وأمام توزيع إحصائي، فإنه يسلم بوجود عامل اجتماعي يفسر هذا التوزيع، وإذا كان قد وُجد، ففيه بقية، فيلتمس وجود عامل اجتماعي آخر، وهكذا دواليك»2. يتعلق الأمر إذاً، إن شئنا الحديث بلغة باسكال، بالبحث عن «علة التأثيرات»، وليس التصميم بالنسبة إلى وضعية فلسفية، سياسية أو ثقافية، يتعلق الأمر إما بمقاومتها أو الدفاع عنها3.

     
  وبصفته عالما، فلا يمكن لبورديو أن يكون فزعا من الحتمية، ولكن، بمعنى آخر، هل كان بسبب ذلك حتميا أكثر منه منهجيا؟ من المؤكد أن من بين المفكرين المرموقين عند بورديو، يوجد حتميون حازمون ومنطقيون أمثال سبينوزا، ليبنتز أو فرويد. لكن يبدو أن الفلسفة الترتيبية التي لم يتوقف الانعكاس التصوري لعالِم الاجتماع إلى أقصى حد عن تعيين مَداراتها، لم تكن فلسفة حتمية. إن التصورات الترتيبية

هي أبعد من أن تكون حتمية بحكم الواقع، وإنه من الممكن إظهار أن الهابيتوس قد كان مُدرَكا، منذ الأصل، مثل استعداد مولِّد للسلوكات جزئيا. ومن بين العلل الأساس التي من أجلها استطاعت نظرية الاستعدادات، الموضوعة من طرف بورديو نهاية سنوات 1960، أن تكون مفسَّرة بوصفها حتمية تقيم في مرجعية تشومسكي التي ظلت ترافق تعريفها: «هذا الهابيتوس يمكن تعريفه بقياس مع &النحو التوليدي& لنعوم تشومسكي، كنسق أنظمة مستبطَنة تسمح بتوليد كل الأفكار، وكل الإدراكات وكل الأعمال الخاصة بثقافة ما، بهذه الأخيرة فقط»4. في الواقع، ولو أننا نتفانى في طموحنا لتفسير الإبداع اللامحدود للمتكلم، فإن ترتيبية تشومسكي هي ذات طبيعة آلية. فلا يمكن قط أن تكون مقارَنة مع نظيرها عند بورديو الذي لا يريد ترجمة آلية للاستعدادات5. بيد أن القراءة الحتمية قد جاءت هي أيضا من جدلية البنيات المبنيِنة والبنيات المبنيَنة، وقد تم إدراكها من طرف البعض كنظرية سَجْن نسقي تام يشتغل وفق الصيغة التالية: «تُنتِج البنيات الهابيتوس الذي يحدد الممارسات التي تعيد إنتاج البنيات»6. كما هو الأمر عند رايل، غير أن المبدأ الاستعدادي عنده يملك ميلا طبيعيا ليتجاوز التفسير الآلي لحتمية الأحداث: « [...] فكما لا يمكننا أن نقول إن الزجاج تحطَّم لأن الحجر وقع عليه، ولكنه تحطَّم عندما وقع عليه الحجر لأنه كان قابلا للانكسار، أيضا عندما نراه –ننظر إليه على وجه الخصوص بطريقة واضحة حينما يُطلِق حادث دال، وفجائي على ما يبدو، عواقب وخيمة وجديرة للظهور متباينة بالنسبة إلى كل أولئك الممنوحين بهابيتوس مختلف، فلا يحق لنا القول إن حادثا تاريخيا قد حدد سلوكا، ولكن كان له هذا التأثير الحاسم لأن الهابيتوس قابل لكي يكون متأثرا بهذا الحادث الذي منحه هذه الفاعلية»7. بهذا المعنى «نستطيع أيضا أن نقول إن الفاعلين الاجتماعيين هم حازمون فقط في الحدود التي يكونون حازمين»، لكن بورديو يضيف على الفور، «إن مقولات الإدراك والتقديرات التي هي في مبدأ تقرير المصير الذاتي هذا، هي نفسها وفي جزء كبير منها محدَّدة بواسطة الظروف الاقتصادية والاجتماعية لتكوينها»8. فعديدون هم المعلقون الذين استنتجوا من هذه الحركة الجدلية لعودة ظهور التكييف الآلي على شكل جد متصنع، أن الموقع داخل البنية الاجتماعية يحدد مباشرة السلوك الاجتماعي. غير أنه، لكونه مغريا، فإن هذا التفسير لم يكن أقل ابتسارا، لأنه كان من الواضح دائما بالنسبة إلى كاتب l’Esquisse d’une théorie de la pratique أننا لا نستطيع استنباط السلوكات من الهابيتوس ومن معرفة شروطه التكوينية:

«الهابيتوس[...] هو نتاج التكييفات الذي يسعى إلى إعادة إنتاج المنطق الموضوعي للتكييفات لكنه يُلحق بها تحويلا، إنه نوع من الآلة المحوِّلة التي تجعل منا أننا & نعيد إنتاج& الشروط الاجتماعية لإنتاجنا الخاص، ولكن بطريقة غير متوقعة نسبيا، بطريقة لا يمكننا التخلي بسهولة وآلية عن معرفة شروط الإنتاج إلى معرفة النتاجات»9. فإذا كان الهابيتوس يحدد صيغ الفعل وصيغ الوجود تبعا لمقولات الإدراك والتقديرات التي هي «في جزء كبير منها» نتيجة لشروط الإنتاج هذه، فإنه أيضا مبدأ تكيف وارتجال، لأنه يجب عليه أن يتيح للفاعلين إنتاج ممارسات وصيغ وجود تكون ملائمة لتغيُّرية الوضعيات الذين يُحمَلون على مصادفتها في حياتهم اليومية. لذلك، فإن بورديو يفهم الهابيتوس كمولِّد بالقوة: «إنه مجموع نسقي من مبادئ بسيطة ويمكن استبدالها جزئيا، والتي انطلاقا منها يمكن اختراع عدد غير محدود من الحلول [...]»10. فالفاعل مُدمَجٌ على مرِّ استشراكه وعبوره الاجتماعي للتخطيطات الذهنية والتحفيزية التي تتكامل كي تشكل قالبا حقيقيا وعاما للأفعال والتمثلات، إلا أن تخطيطية الممارسات، التي هي في صلب هذا القالب المنطقي، هي تخطيطية محدودة ومرنة تسمح بتوليد ممارسات بمحتوى متنوع إلى أبعد حد، وهكذا تنكشف إمكانية تغيير موضعه إلى سياقات متعددة.

        يستطيع الهابيتوس بهذه الطريقة أن يولِّد عددا غير محدود من الممارسات، لأن هذه الاستعدادات، الموجهة بمنطق ممارسة التخطيطية، تؤثر كعلل نهائية لا تحدد الطبيعة الخاصة لنتيجة فعلها: «لا تقود الاستعدادات بطريقة محدَّدة إلى فعل محدَّد:  فهي لا تنكشف ولا تكتمل إلا في شروط ملائمة وفي علاقة مع وضعية ما»11. ليست استعدادات الهابيتوس مرنة إلى حد ما فحسب، ومطابقة لميولات يمكن أن تكون قوية أو ضعيفة تؤثر دون استلزام، (نستعيد هنا عبارة ليبنتز)، ولكنها ليست هي ذاتها متعذَّر مسها وغير قابلة للتبدل وتتوقف على الشروط التي تُفعَّل فيها: « مبدأ استقلال ذاتي فعلي بالنسبة إلى التحديدات الفورية من لدن &الوضع&، لذلك السبب، فالهابيتوس ليس نوعا لجوهر لا تاريخي بحيث لا يصير وجوده إلا تطورا، وجملة القول، فإنه قدر محدَّد نهائيا. إن الضوابط التي تظل مفروضة على الدوام من طرف اقتضاءات التكيف مع وضعيات جديدة وغير متوقَّعة، تستطيع تحديد تحولات مستدامة للهابيتوس، لكنها تظل في حدود معينة: من جملة الأسباب لأن الهابيتوس يحدِّد إدراك الوضعية التي تحدِّده»12. الهابيتوس ليس جوهرا إذاً، ليس مصيرا، فهو يمثل، في الآن ذاته، أنساقا مفتوحة ودائمة وفي تحول مستمر. إن المحدِّدين جزئيا والمحدَّدون جزئيا هم الذين يبنون الخبرات ولكنهم متأثرون بها باستمرار، ولو أن بورديو يلفت الانتباه إلى أية درجة  تظهر الخبرات الأصلية مستفيدة  من «امتياز لا مناص منه»13.

بوصفها مدرَكة في رد فعل على الآلية اللحظية، فإن الترتيبية غير الجوهرية لنظرية الهابيتوس تمثل إذاً نموذجا نظريا للتحديد الاجتماعي للممارسات الذي هو متنافر مع المنظور الحتمي. فبين اللانظامية والحتمية يتموضع العالَم الذي يهتم به بورديو: «النظام الاجتماعي يجد مكانا له بين حدين: من جهة، الحتمية الجذرية، منطقية وفيزقالية، لا تترك مكانا لـ &لا يقين& الآخر، والإبهام التام، مبدأ، منتقَد بقسوة من طرف هيجل تحت اسم &إلحاد العالَم الأخلاقي&، لأولئك الذين، باسم التميز العقلي للفيزيقي والذهني، يرفضون للعالَم الاجتماعي الضرورة التي يمنحونها للعالَم الطبيعي»14.

في الواقع، فإن ترتيبية بورديو هي أيضا فعالة كليا ضد الفهم الآلي المضاد للرؤية القصدية للممارسة، وعلى وجه الخصوص تلك التي تجسد نوعا من العقلانية في فلسفة العقل، وبواسطتها وجد نفسه تدريجيا معارضا في الجدل الفكري الذي رافق انطلاقة علم الاجتماع طيلة سنوات 1960-1970.

          إن الضرورة كانطباع، تتركه لدى عدد من القراء تحليلات بورديو، إذا أمكنها أن تبرز بواسطة عدد من الصياغات، فهي لا تخرج من المثال التفسيري الذي يرخِّص لها، ولكن من تكوين العالم الاجتماعي: «فمعظم الناس منذورون إحصائيا للقاء ظروف منسجمة مع تلك التي شكلت الهابيتوس الخاص بهم، إذن لتحصيل خبرات تعزز استعداداتهم»15. فدراسة الدرجة التي تكون عليها السلوكات الاجتماعية محدَّدة فعليا هي موضوع علم الاجتماع و«حيث إن كل تطور في معرفة قوانين العالم الاجتماعي يرفع درجة الضرورة المدرَكة، فمن الطبيعي أن يجلب علم الاجتماع بالأحرى لائمة &الحتمية& لكونه متقدما أكثر »16.                    

هوامش حتمية:

1-Question de sociologie, coll. « Le sens commun », Éd, de Minuit, Paris, 1992, p. 44.

2-Ibid, p. 44.

3-Méditations Pascaliennes, coll. « Liber », Éd. du Seuil, Paris, 1997,p. 14-15.

4-Architecture gothique et pensée scolastique. «Postface » dans E. Panofsky. Coll « Le sens commun », Paris, Éd. de Minuit, 1967, p. 152.

5-Réponses, Pour une anthropologie réflexive, (avec L.J.D Wacquant), coll. « Libre examen », Éd. du Seuil, Paris, 1992, p. 110.

6-Ibid, p. 110.

7-Méditations Pascaliennes, ibid, p. 177.

8- Réponses, Pour une anthropologie réflexive, ibid, p. 111.

9- Question de sociologie, ibid, p. 134-135.

10-Ibid, p. 135.

11- Méditations Pascaliennes, ibid, p. 178.

112-Question de sociologie, ibid, p. 135

13- Réponses, Pour une anthropologie réflexive, Ibid, p. 106-107.    

14- Méditations Pascaliennes, ibid, p. 254.

15- Réponses, Pour une anthropologie réflexive, Ibid, p. 109.

16- Question de sociologie, ibid, p. 44.

تعليقات