محطات ثقافية في حياتي (10)

             حكاية المجموعة المختارة "  الخطاب الممنوع "                      


بقلم : الناصر التومي

خلال مسيرتي الثقافية، كنت أعايش عن قرب أو من خلال ما يبلغني من أحداث ووقائع صادرة عن النظام القائم بعد الاستقلال أو إثر التغيير، والتي تتسم بالاستبداد والظلم والقهر، تستهدف المرء، فتنتهك جسده وعرضه ونفسيته، وتحد من حريته، فتستفزني، ولا أجد ما أفرج به عن كبتي إلا كتابة نصوص أدبية سواء في جنس القصة القصيرة أو الرواية أو المسرحية، أشحنها ثورتي على هذه الأوضاع غير الإنسانية.

 فأبطال قصص "  الخطاب الممنوع"  متمردون عن واقعهم و أوضاعهم، لكنهم مطحونون مقموعون، لا قدرة لهم على تحقيق طموحاتهم في الحرية والعدالة والحياة الكريمة، ورغم كل شيء فلا يستكينون، بل يواصلون مسيرتهم النضالية بثبات.

 تطرقت في بعض النصوص لما حصل لبعض من أعرفهم عن قرب من انتهاكات فظيعة، وملاحقات أمنية وسجون ومضايقات وتعذيب، وقد جاءت رد فعل في قصتي"  حدث ذات ليلة" و" تحول".

 قصة " عندما تزرع القبور"  التقطتها من حادثة وقعت بمركز أمني حدودي، حين حلت امرأة مصطحبة جثمان زوجها المعارض السابق والمتوفى في قطر مجاور، وقد جوبهت برفض طلبها للحصول على ترخيص من السلط العليا للسماح للجثمان بالمرور حتى يوارى تراب بلدته.

 قصة " عندما تقبر الأسرار"  استمددتها من اعتماد النظام التعتيم على بعض الأسرار التي يرى أن بفضحها يمكن أن تسبب له متاعب اقتصادية وسياسيبة واجتماعية، والأسرار متعددة ومختلفة، تتعلق إما بأخطاء السلطة أو بأحد رموزها، أو أحد المقربين، وهذه الأسرار عديدة في حياتنا السياسية والاقتصادية والبيئية والأمنية.

 قصة " عودة الأصنام"  كانت وليدة معاينتي لمنحوتات الزعيم بورقيبة في عهده، وصوره التي تفرض في كل مكتب بالإدارة، ويعد معارضا من لا يعلق هذه الصورة في مكتبه أو متجره، وكذلك الشأن مع نظام الجنرال، وهي سياسة مركزة لفرض الهيمنة على الشعب وإرهابه، فكانت هي المغزى والهدف.

 استنجدت بالأسطورة في نص " الخسوف"  وقد كانت تيمة لمسرحية بالعنوان نفسه، ألفتها خلال السبعينات، ونشرتها قبل سنوات قليلة، وقد تواريت وراء حدثها لأبرز جهل السلطة بالعلوم الصحيحة، وغمط حق التقنيين في تسيير دواليب الدولة، فعلى الساسة أن  يفتحوا لهم آفاق العمل والإمكانيات، ولا يتدخلوا في أعمالهم، وإن بطانات السوء التي تحيط بالسلطان الجاهلة بهذه العلوم تعمد إلى عرقلة كل المبادرات التي تسعى إلى تفعيل هذه العلوم في نهضة البلاد، وهي دعوة لاحترام المختصين، سواء في الدين أو في الاقتصاد أو الصناعة أو  الفلاحة وغيرها، لكن مع الأسف نجد بعض الناس يفتون في كل شيء، ولم يكن لهم أي حظ من هذه العلوم، كما تطرقت إلى موقف الحاكم بأمره عندما يستبد برأيه ويأخذ النصيحة من الجهلة أمثاله، والتي قد تتلاءم مع مصالحهم الخاصة، لكنها تتعارض مع مصلحة المجموعة.

 كما استأنست بالخرافة فكانت قصة" حكاية مملكة الأنس"  حيث صراع الخير والشر في الإنسان، وهما يتداولان الأدوار ما دامت الحياة.

 عديد القصص أبطالها من بني البشر، عاشوا بيننا ونعرف بعضهم أو من يشبههم، وتألمنا لآلامهم، ونقمنا لتسلط وهيمنة من استغلوا بني جلدتهم وأذاقوهم ألوانا من الحرمان والظلم، وبعض القصص جعلت أبطالها من عالم الطير والبعض الآخر من عالم الحيتان والأسماك.

 نشرت هذه القصص المختارة على أعمدة الصفحات الثقافية للجرائد اليومية، وبالمجلات الدورية، وأدرجت بمجموعتيّ "  الأقنعة المحنطة"  الصادرة سنة 1975 عن دار سراس للنشر،و"  حدث ذات ليلة"  الصادرة سنة 2003 عن دار سحر للنشر.

  ارتأيت إصدار هذه المجموعة القصصية ذات المنزع النضالي والنقدي للسلطة والتي نشرت متفرقة على امتداد ثلاثين سنة، للبرهنة على أننا ما كنا نائمين في العسل، بل كنا نتألم للوضع السياسي والاجتماعي بالبلاد، في غياب الحرية والحياة الكريمة، وهذه النصوص هي البرهان، لم ننتظر الثورة حتى نملأها صخبا وتمردا ومشاكسة لنكتسب ثورية زائفة لا تنطلي على أحد، وإن يدّعي بعضهم أن عديد المؤلفات قد صودرت،  نقل لهم ذلك لأنكم لا تحسنون الصياغة، فالمبدع الحق لا يستطيع قلم الرقيب أن يمسك عليه ما يدينه، بل هو مراوغ بارع، يعسر وضعه في الركن للنيل منه، كانت أغلب رواياتي ناقدة للأوضاع السياسية بشهادة الجميع ومع هذا لم تحجب أي رواية عن الصدور.

  أخرجت هذه المجموعة لتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة المغالطة والتي تحاول أن تزور الحقائق، وتصنف الأدباء الذين نأوا بأنفسهم عن الصدام مع السلطة بأنهم إما من مثقفي السلطة، و" إن وجدت فعلا هذه الفئة وأفسدت "  أو ممن تقوقعوا في محراب الإبداع بعيدين عن التجاذبات الفكرية والسياسية، بإطلاق عليهم صفة الاستكانة، ليستأسد أولئك الذين خلقوا لأنفسهم بطولات دونكيشوطية مضحكة لاختصار طريق الشهرة بواسطة "  بروبقندا"  ألإعلام والشبكة العنكبوتية ومواقع الاتصالات الاجتماعية لفرض نرجسية لا تساهم إلا في الحط من شأن الأديب الحق.

ما يؤمن به أغلب الأدباء الذين يحترمون أنفسهم، هو الدفع بالأثر الأدبي إلى القارئ، ذلك الذي وهو حده من يحكم لهم أو عليهم، وليس بشطحات المؤلف يمدح فيها كتاباته ويصفها بالتحف الفنية الإبداعية التي لم يأت الزمان بمثلها، ويوشي الفضاءات الثقافية المتعددة بشطحاته بأنها برهان نجاح كتاباته.

تعليقات