محطات ثقافية في حياتي (5)


الطليعة:

بقلم : الناصر التومي

 رغم أن  بعضهم  أضفى هالة من الانبهار على من اقتحموا التجديد وأبحروا فيه، وأطلق عليهم تسمية الطليعة، من خلال اطلاعهم على التجارب الغربية إضافة للمشرقية، ووضعوا نصوصا حاولت تقويض كل السائد بداية من الإيقاعات اللغوية والاهتمام بالتفاصيل والاعتماد على أساليب فنون أخرى في التعبير مثل الحوار الباطني والتقنية المسرحية والسنمائية والتنويع في استعمال الضمائر والتلاعب بالزمن، ولعل من أحسن من أشار إلى هذه النوعية من الكتابة هو أحد فرسانها وهو الأديب رضوان الكوني في كتابه "  الكتابة القصصية في تونس من خلال عشرين سنة"  ص 99 "

ـ" فهي كتابة إيقاظية محرضة مضجرة، غير سليمة الطوية، تتعارض مع الكتابة التقليدية التي هي هادئة، لطيفة، مسلية وبريئة، ولعل تلك البراءة هي أصل العيوب"

ويضيف في نفس الصفحة:

ـ" فالدافع على الكتابة لدى الطلائعيين لا يمكن أن يكون إلا دعوة إلى اكتشاف أو إثارة لموضوع قد يبدو ضئيلا لا معنى له، أو استفزازا لمشاعر كانت هادئة نائمة، وتضخيما لعيوب قد لا نفكر فيها تماما لتفاهتها أو تحقيرا لبعض ما كنا نعتبره عظيما"

ولعلي اطلعت على هذه التجارب فاستحسنت بعضها، وأنكرت البعض الآخر، لكني لم أتفاعل معها حقيقة، ولم تشف غليلي ولا استهوتني محاولة محاكاتها، وخاصة لما انجرف جيل لاحق في تقليد أعمى دون تشبع بالفن القصصي فتاهوا. في الواقع لم يكن هناك إجماع في استحسان هذه النصوص التي قال فيها الأديب بوراوي عجينة في كتابه مساءلات نقدية الجزء الأول ص 157:

ـ" لكنها ـ أي النصوص ـ كثيرا ما انحدرت إلى الهذيان السريالي المبهم والعامية البسيطة والسباب المباشر، والمس بالسنن الأخلاقية والمقدسات الدينية دون حاجة فنية إلى ذلك "

 والحق يقال إن لم يجن هؤلاء الذين خاضوا ملحمة التجديد والتجريب في فن القصة ثمرة ثورتهم على السائد سواء بالريادة أو المواصلة، فقد كان لهم الفضل في تحريك السواكن، ودفعوا بالأقلام الجديدة إلى الانطلاق من مرجعية هذه الحركة، منيرين لهم طريق الابداع المتجدد على الدوام.

كنت على إيمان راسخ طيلة أربعة عقود من الكتابة القصصية أن التجديد لا بد أن ينطلق من ثوابت حكائية، فالحكاية ما وصلت إلينا إلا بلاعاديتها، وغريبها وعجيبها، وبأحداث بارزة صارخة تمس الإنسانية، في النفس، والجسد، والعرض، والمال، ومن هذا المنطلق استطاعت أن تقهر الزمن وتصل إلينا عبر الأجيال، وتتشبث بالذاكرة فلا تتيه عنها إلا بالموت، لكن أن نضع لوحات، وخواطر، وذكريات، وتداعيات ونسميها قصصا فهذا إجحاف لهذا الفن واستبلاه للقارئ. فقد أطلع على مجموعة قصصية فلا أستطيع إثرها مباشرة أن أتذكر منها أحداث قصة واحدة، ولا تنحت في ذاكرتي ملامح شخصية واحدة، فهي متشابهة، مجرد هلوسات، ونحن نتساءل لماذا لا ننسى قصص علي الدوعاجي والبشير خريف، وننسى آلاف القصص التي كتبت بعدها، لأن الدوعاجي وخريف مثلا يلتقطان أندر الأحداث، و الشخصيات التي تتسم بالغرابة، وإن لم تكن غريبة عن مجتمعنا، فننبهر بها في تحولاتها وتشكلاتها، وما يتوفر فيها من أساليب القص كالتشويق والتصعيد الدرامي والخاتمة غير المفاجئة.

لاحظت الكاتبة والناقدة هيام الفرشيشي من خلال اطلاعها على جل أعمالي القصصية والروائية أنني لا أهتم بالشكل مثل بقية الكتاب المعاصرين، وكل اهتمامي منصب على المضمون، وفعلا فقد يسيطر علي المضمون الذي يكون عادة مأساويا يحفر في الأنفس الإنسانية أخاديد يصعب علاجها لأنها عادة ما تكون أقوى من إرادته، فأنساب معها، أعتصر مخيلتي لأبرز ما قد يؤثر في القارئ، وهذا التركيز يساهم في إهمال شأن الشكل الذي لا يجد مني العناية التامة، بينما يهيمن المضمون على ملكتي فلا يترك للشكل مجالا أوسع فيأتي حسب سياق مسار أحداث القصة.

أومن بأن على الكاتب أن يقدم نتاجه القصصي بشكل جديد جذاب وفي ثوب قشيب، للقطع مع الرتابة ويساهم في قبول أفضل للمضمون، وأن عليه المحافظة على المعادلة الصعبة بأن يواكب الشكل العصر،  ويحافظ في آن على المضامين المؤثرة في النفس البشرية، وهو جزء مهم ّ لا يمكن الاستهانة به في فن القصة القصيرة، لكن ما لاحظته طيلة اطلاعي على عديد التجارب القصصية أن بعضهم قد ركزوا على الشكل وأهملوا المضامين، فقد تقرأ قصة وما هي بقصة، بل مجرد خواطر، و تداعيات، ولوحات، وبوح، لأحاسيس وأحداث تافهة، لكن الكاتب تفنن في الشكل، باستغلال عديد التقنيات الحديثة، فطغى على المضمون، حتى إذا ما أنهى القارئ القصة تفطن أن الكاتب استغباه واستبلهه، ولم يقدم له قصة، بل ثرثرة لا طائل من ورائها، وهذا ما كنت أتجنبه، لكن أحاول أن أجتهد قدر الاستطاعة طرح شكل جديد نسبيا يكون المضمون هو المهيمن، ولا أجازف بأن أفرض شكلا قد يفسد مسار أحداث المضمون ومساره كما حدث في الواقع أو كما تصورته.

قال بعضهم بأن لغتي بسيطة، أي في متناول الجميع، وغير معقدة، وهذا اختيار يتماشى ونوعية قصصي المبنية على الأحداث الفاعلة، ولها انعكاسات، وهي تتماشى مع حسن قبول القارئ لها، وهذا لا يعني أن تكون مسفة، وهي بالتالي ترفض التقعر في اللغة والبحث عن الألفاظ العصية عن الفهم، فلا يعقل أن يقرأ أحدهم قصة ويجعل بيسراه قاموسا للاستنجاد به لفهم بعض الألفاظ التي لم يألفها، أو يرفع بعضهم تراكيب الجمل إلى مستوى تراثي معقد لم يألفه القارئ الجديد فيستعصي عليه الفهم، وأشارالأستاذ محمد الجابلي في مداخلته حول مجموعتي حدث ذات ليلة، في قوله ـ ، فتزاحمت نصوص مفرغة، تهريجية عابثة تحت لافتات باهتة سمجة، من قبيل الاشتغال على اللغة أو التجريب الذي لا يستند على رؤية فنية أو مبدئية واضحة، وقد انخرط بعضهم في هذه التجربة وسقطت محاولاتهم بالإهمال، وهم يحاولون تقليد محمود المسعدي الذي كان أول من برز في هذا النهج  ببلادنا وعذره أن تلك هي لغته أسلوبه ولا يعرف غيرها، أي لم يكن يرجو استعلاء على غيره، ووضع القارئ في اندهاش وحيرة، بل كانت لغته بصمته التي لا يمكن له أن يغيرها، بعكس الذين اتبعوا أسلوبه، فكانوا في الغالب مسخا له، فهجرهم القراء لما لم يجدوا متعة في أساليبهم التي تعيق الفهم، وأشارت أيضا هيام الفرشيشي في نقدها للمجموعة نفسها قائلة: فالقصة هي حكاية الذاكرة، وحكاية الكاتب في آن، ولكي يكتبها فهو يبتعد عن التجريب الذي غالبا ما شبهه بشطحات في العمق، لأن الانجراف وراء اللغة والمراوغة بالفكرة أو باللغة يؤدي الكاتب إلى الاشتغال على اللغة على حساب الحدث.

اللغة العصية، والأسلوب المعقد قد يفيد في البحوث والدراسات بحكم أنها شغل المختصين، أما بقية القراء من العوام  فهم في حاجة إلى من يأخذ بيدهم في سرد أحداث بكل يسر، لا يحول بينهم وبين الفهم ومواصلة متابعة القصة أي عائق لغوي أو أسلوبي.

فمن البداية بعد أن اطلعت على كتابات المسعدي فالبشير خريف انتصرت للأخير، وجعلته أستاذي وقدوتي، لكونه يسحب كل القراء دون استثناء، أنصاف متعلمين ونخبة إلى عالمه القصصي دون عناء، وكل يجد ضالته، بعكس محمود المسعدي حيث تستهوي كتاباته النخبة والنقاد دون غيرهم، وأهمل من البقية لصعوبة مواصلة الاطلاع على إبداعه الذي يزخر إضافة للغته الراقية العصية وأسلوبه المعقد، بمرجعيات تراثية ليست في متناول إلا القليل، لذلك يستعصى على الأغلبية الاسترسال معه.

تعليقات