محطات ثقافية في حياتي (6)

إشكالية الانتفاع بالكتابات التنظيرية والنقدية:

بقلم : الناصر التومي

يصدعني بعضهم بتساؤلات عن الكتابات التنظيرية من الفحول في هذا  المجال، سواء أكانوا غربيين أم  عربا، وكذلك آراء النقاد بدرجة ثانية في ما  يتعلق بالكتابة القصصية والإبداعية بصورة مجملة، فيكون جوابي دائما بأني لا أتعلم لا من هؤلاء ولا من هؤلاء بل أتشرب النصوص الأدبية سواء في ذلك الغربية أو العربية وأهضمها، وأكتب من خلال إفرازاتي أنا، فهؤلاء المنظرون والنقاد كل له قناعاته، ومراجعه وذوقه، قد أقر لهم ببعض الأقوال وأرفض البعض الآخر، لكني لا آخذ بآرائهم  وأجعلها مقدسة، فلا أهتدي إلا بالنص الآخر لا غير دون سطو أو اقتباس أو حتى التباس، أحاول بكل جهدي فقط أن أهرب بنصي بعيدا عن نصوص مطالعاتي، وقد أكتشف بعد فوات الأوان أن لي شخصية بإحدى رواياتي تشبه في جانب شخصية برواية  كنت اطلعت عليها، تسربت من عقلي الباطن دون قصد مني، لفتنتي بها وفرضت نفسها على الشخصية الشبيهة بها في  نصي.

ولعل ذلك النفور من أقوال المنظرين والنقاد يعود إلى أني في الغالب أكتب على السجية، وليست لي قوالب جاهزة استمدها منهم، وهم يستنبطون نظرياتهم من النصوص فكيف لي أن أجعلها هديا لي.

                                 المحظورات

السياسة:

 على امتداد عقدين كنت أرفض إدراج المواضيع السياسية في  كتاباتي القصصية، وأعد ذلك ليس من مشمولات الفن والقصة القصيرة خاصة، بل مكانها المقالات والخطب المنبرية، وأصدرت مجموعتين قصصيتين & كل شيء يشهق& و& الأشكال تفقد هويتها& المنشورتين كلتاهما في العقدين الأوّلين من مسييرتي الأدبية، ولم تتعرض أي قصة منهما للشأن السياسي، وكنت أنتقد من انخرط في هذا المسار، وأعد ذلك مضيعة للوقت والجهد، والأفضل أن لا نفسد على القارئ متعته بإقحام قرف السياسة في إبداعنا القصصي، فالقصة جعلت للمتعة والتسلية، لكن في عقد التسعينات بدا لي أني أخطأت في التشخيص، وأن القصص القديم يزخر بالحروب، وجشع والسلاطين والأمراء، وتسلطهم على العامة وقهرهم، والحد من حريتهم فساموهم الويلات، بالاستيلاء على أموالهم وانتهاك حرمات أجسادهم وأعراضهم وأرواحهم، ووجدتني شيئا فشيئا أنخرط بدوري في وضع قصص أغلبها من الحياة العامة تسرد انتهاك السلطة لحرمة الإنسان ظلما وتعسفا، فكانت أغلب قصص المجموعة القصصية & الأقنعة المحنطة & و& حدث ذات ليلة& تشي بهذا الغرض، وإثر الثورة جمعت كل القصص النضالية المدرجة بالمجموعتين السالفتين الذكر طي مجموعة قصصية واحدة  تحت عنوان & الخطاب الممنوع&، وأعترف أنني كنت مخطئا في تقديري في البداية، وأن آلام البشر وجب أن تدرج بكل الفنون الأدبية دون استثناء، وليس القص متعة وتسلية فقط بل عليه أن يواكب معاناة البشر المتأتية من قضاء القدر، أو من ظلم الإنسان للإنسان.

الدين:

بدأت الكتابة القصصية قبل عشر سنوات من التزامي بتطبيق الشعائر الدينية الإسلامية، وكنت أثناءها مررت بفترات شك فتحسس وتلمس التراث العقائدي السماوي، لكني ما تجرأت على نقد الدين أو التمرد عليه، وإظهار ما يختلج فيّ من حيرة، بل كنت أضع قصصي ضمن مجتمع مسلم تواق إلى الفضائل،  وذلك احتراما مني لهذا القارئ في مجتمع محافظ، فالمتلقي هو غايتي فلا يمكن لي أن أعكر عليه صفاءه أو أستفزه بما يكره فأنتقد معتقداته أو أرفضها، ولا أتعاطف مع كتابات بعضهم ممن يحاولون إثارة قضايا دينية وانتقادها والتشكيك فيها، فمثل هذا التمشي حتما  يخسر الكاتب عددا من قرائه، مثلما يفقد التاجر زبائنه عندما يغش في بضاعته.

 لا أقول إنني أدعو إلى الفضائل، بل ما يهمني هو طرح قضايا إنسانية تجد تعاطفا من كافة شرائح المجتمع، برّهم وفاجرهم لأنها قد تقع للجميع فيتفاعلون معها.

ولعل العشر سنوات الأولى لم يكن هذا الوازع الديني يمنعني من وضع بعض النصوص المسرحيةـ  الخسوف ـ وقرطاجيات ـ وعليسا وأنياس ـ، التي أصدرتها لاحقا تباعا، أن أخوض في معتقدات غير إسلامية، كالوثنية والنصرانية، فإذا بي أصطدم  سواء من قبل لجان القراءة بوزارة الثقافة، أو حتى المشرفين على الفرق المسرحية، بأنني أدعو إلى الكفر، مع أن المسرح الإغريقي والروماني وحتى المسارح الأوروبية أثناء عصر النهضة، التي أبهرت ألباب مثقفينا، لا يستنكرون ما يرد بها سواء أكان عقيدة  وثنية أو نصرانية أو حتى الكفر بكل الأديان، خاصة في القرنين الأخيرين، لما تخلصت أوروبا من هيمنة الكنيسة.

 وحتى إثر تديني منذ أكثر من ثلاثين سنة وجدتني أضع قصة بعنوان ـ بربتوة وفرجة الموت ـ المدرجة حاليا بمجموعتي القصصية ـ حكايات من زمن الأسطورة ـ وأرسلتها إلى إحدى الصحف ليعلمني المشرف على الصفحة الثقافية بأنه يأسف لعدم نشر هذا النص الذي يدعو إلى النصرانية، فكانت إجابتي بأنه نص أدبي  يحكي بداية انتشار النصرانية على أرض البروقنصلية القرطاجية منذ ثلاثة آلاف سنة، ولا علاقة له  بالدعوة إلى النصرانية، وذكرته  بأن النصوص الإغريقية  والرومانية التي يضعها العالم في قمة الإبداع تسرد العصر الوثني، وحتى مسارحنا العربية ومنها التونسية احتضنت عروض العديد من هذه المسرحيات، لكنه أصر على رأيه ولم ينشر هذا النص، واحتضنته مجلة المسار لاتحاد الكتاب التونسيين لاحقا.

 هذا من ناحية التعامل  مع النصوص ذات المبحث الوجودي العقائدي، أما النصوص التي تتضمن مشاهد جنسية فحدث ولا حرج، ولعلي لامست الخط الأحمر الذي وضعته الثقافة الإسلامية الكلاسيكية، فحذرني أستاذ زيتوني، من أنني قد أزج بنفسي في أتون السؤال المهلك يوم الحساب، جراء تصويري لمشاهد جنسية تروج لعموم القراء، مع أنني أتفنن في استغلال الإيحاء والتورية على الصريح والمباشر.

تعليقات