محطات ثقافية في حياتي (6)

الجنس:



بقلم : الناصر التومي

حافظت على امتداد مجاميعي القصصية على عدم الانجراف وراء الجنس، وإن ظهر منه في بعض الروايات، فبالتورية والتشبيه والكناية، وليس بأسلوب مباشر، وأعتبر أن كل المواضيع يمكن أن تطرح ضمن جنس القصة القصيرة، حتى العاطفية منها بين الرجل والمرأة، لكن الإشكال كيف يمكن تقديمها إلى القراء لمختلفي الأعمار والمستوى التعليمي، فالمنطق الأدبي يفرض وضع القصص ذات النزعة الإنسانية والعاطفية بفن، وأسلوب يقبل من الجميع، والبعد عن التصوير الجنسي المباشر، والألفاظ القبيحة، وحتى وإن وجدت مثل هذه القصص وأعجب بها البعض موضة منذ سنوات عديدة، فقد أنكرها أغلب القراء، إن ثقافتنا الإسلامية المبنية على إشاعة الفضائل دون الرذائل، تفرض علينا توخي الحذر من السقوط فيما انجرف فيه الغرب من التخلص من كل الموانع الأخلاقية، واعتبار الفن مخولا له ولوج كل المواضيع حتى الجنسية منها دون الرضوخ لأي مانع.          

  الحقيقة أني، تعرضت إلى معضلة أو إلى شبهة المحرم، أثناء تعاملي مع الأجناس الأدبية، كالنص المسرحي، بداية، فالقصة القصيرة فالرواية لاحقا.

 وهنا يبرز سؤال جوهري، هل فعلا كتابة المشاهد الجنسية دون ذكر العورات هو من المحرمات، قرأنا القرآن، فما عثرنا على ما يفيد المنع،  وحتى الأحاديث النبوية ضنينة بذلك، و كذلك الشأن في أسفار الأولين من العلماء والفقهاء، باستثناء لاءات فقهاء جدد، يعترضون على التطرق إلى علاقات الرجل والمرأة في الأدب خارج الأطر الشرعية.

 لكن لو رجعنا إلى بعض المصنفات الجنسية العربية القديمة لوجدنا أن أصحابها من العلماء الأفذاذ في علوم القرآن والحديث والفقه والأدب، وكانوا من الجرأة ما لا يقدر عليه كاتب الآن جراء المعارضة لمثل هذه المصنفات مثل:

ـ طوق الحامة  في الألفة والألاف ـ لابن حزم الأندلسي، الذي يعد من الفقهاء التسعة على امتداد التاريخ الإسلامي.

ـ الروض العاطر في نزهة الخاطر ـ للشيخ  أبي عبد الله محمد  النفزاوي، وقد استفتح المحقق تقديمه للكتاب باستهلال، للإمام الحافظ قتيبة الدينوري

" إذ مر بك حديث في إفصاح يذكر عورة أو فرج أو وصف أو فاحشة فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعّر خدك، وتعرّض بوجهك، لأن أسماء الأعضاء لا تؤثم، والتأثم في شتم الأعراض، وقول الزور والكذب، وأكل لحوم الناس بالغيب ".

ـ نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب، تأليف أحمد التيفاشي تحقيق الدكتور جلول عزونة، وصاحبه تعلم بالزيتونة، فالأزهر الشريف، فدمشق، ولما عاد إلى بلده تولى قضاء مدينة قفصة. وللتيفاشي كتب أخرى في هذا المجال مثل ـ قادمة الجناح في آداب النكاح ـ وله مؤلف آخر ـ رجوع الشيخ إلى صباه في القوة والباه ـ

ـ  الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين ـ لحافظ مغلطاي، وهو مصري من أصل تركي عاش في القرن الثاني عشر مسيحيا، درّس الحديث في القاهرة ودمشق.

" تحفة العروس ونزهة النفوس"  للشيخ عبد الله التيجاني ـ الذي ترأس دواوين أبو يحيى زكرياء اللحياني الموحدي.

 ونجد للشيخ العابد عبد الرحمان السيوطي، عديد الكتب، نذكر بعضها ـ" الإفصاح في أسماء النكاح"" الزنجبيل القاطع في وطء ذات البراقع"، و"المستطرف في أخبار الجواري" "الوشاح في فوائد النكاح" ـ ، وغيرها من عناوين لا يسمح المقام بذكرها.

 وقد نضيف إلى هذه الكتب ـ المستطرف في كل فن مستظرف ـ، لشهاب الدين محمد الأبشيهي الذي أورد بالجزء الثاني فصولا في وصف كل ما يتعلق بمفاتن المرأة.

 فكل هؤلاء الأدباء الفقهاء شيوخ علم، تطرقوا إلى مواضيع الجنس دون مواراة، بنقل أخبار من وقعوا فيه، وإعطاء النصح من الناحية الدينية أو الطبية، فهل هم مخطئون آثمون، ويتجرأ الحافظ الدينوري فينبئ بأن ذكر العورات عموما شفاهيا أو كتابة ليس بآثم، وبعد ذلك نجد من يحصي علينا مشاهد جنسية في كتاباتنا، ويهددنا بالويل والثبور، رغم أننا استعملنا الإيحاء والتورية، نابذين الإفصاح والوضوح.

 لعل بعضهم لا يرى ما نعا في أن نصنف مثل تلك الكتب الجنسية للخاصة، لكن هذا كلام لو تمعنا فيه لتحققنا أنه مردود، ففي الواقع، إن ما يكتب يصبح ملكا للعامة جميعا، ذكورا وإناثا كبارا وصغارا.

 أذكر أنني خلال تعاملي مع مجلة المغرب سنة 1989 اطلعت على عدد من النصوص الشعرية والمقالات التي استعملت المباشرة، في التعامل مع الجنس، ونالت من الرموز الدينية القديمة والمعاصرة، وانتقصت من الدين، وتهكمت على بعض تشريعاته. فحررت مقالا بعنوان ـ قراءات في الاستفزاز بالنص المرفوض في لفظه وصوره، وشملت كتابات كل من حسونة المصباحي، ورضا الملولي والمنصف بن حسين، وسليم دولة، حيث بدت لي تسمية الأشياء بأسمائها من الوقاحة، وثانيا الخروج عن السائد، تحت شعار ـ خالف تعرف ـ، ورأيت في بعضها تحاملا على الدين ورموزه والأخلاق الحميدة، وقد علق الشاعرأولاد أحمد بالبنط العريض أسفل مقالي بفقرات أهمها أنني أتظاهر بالتقوى.

   لكنني لا زلت أصر على أن الأفضل أن تدرج الكتابات الجنسية في مدونات خاصة، يقتنيها من يريدها، ولا تدرج في الصحف والمجلات الدورية، كما إني أفضل الإتيان على المشاهد الجنسية بالإيحاء والتلميح، وبفن، في القصة القصيرة والرواية والمسرحية، فالصريح ضد الإبداع.

ولقد تزامن المقال بمجلة المغرب مع مسلسل مقالات للكاتب زياد كريشان بعنوان من تاريخ الجنس في الإسلام، وكذلك مقال سليم دولة ـ الإفصاح في تسميات النكاح، ورأت أسرة التحرير أن تورد بغلاف المجلة إشارة لمقالي عنوانا للإثارة ـ مثقف إسلامي يعقّب على ملف الجنس ـ مع أنني لا أعد غير كاتب رأى في الكتابات الجنسية بالصحف والمجلات سواء من خلال  النصوص الإبداعية أو المقالات هو نوع من الاستفزاز للعامة، وانتهاك للذوق السليم، وعلى وسائل الإعلام أن تكون خالية من هذه المواضيع التي مكانها مصنفات خاصة يقتنيها من يرغب فيها

 أما رضا الخليفي فاتهمني ضمن مقاله بهذا العدد بقوله ـ يا سيدي من اختارك وصيا على أخلاق شعب لم يرتق إلى ما بلغته أنت من مراحل النضج والاكتمال، فهل سيكتمل وعيه إذا اعتبرته قاصرا، واعتمدت له الرؤيا، مؤبدا بذلك واقعه الأخلاقي والثقافي البائس المرتكز على الحرمان والعدوانية والنفاق.  واختتم:" ماذا عسانا نفعل بكتابات بشار وأبو نواس  والمعري وابن حزم، وبودلير والطيب صالح وغيرهم، هل  نحبسها مؤقتا على الصفوة المختارة، وحتى إذا ما خلا لنا الجو نبعثها للنار، وأضاف بأنني أنتمي إلى الأصوليين..

  ولعلني في رواية النزيف قد تجرأت وصورت بالتشبيه والإيحاء مشهد اغتصاب إحداهن لرجل مخمور، وبعض المشاهد الأخرى التي رأيت أنها موظفة، ولما عرضت المخطوط على الصديق الأديب  أبو بكر العيادي،  قال بأن تلك المشاهد هي التي أنقذت الرواية من السقوط، ولما طبعت الرواية واطلع عليها  الصديق الأديب المرحوم رضوان الكوني أسف لوجود هذه المشاهد التي كان يمكن الاستغناء عنها حسب قوله، دون أن تفقد الرواية إشراقها، نكتشف هنا اختلاف القناعات حتى بين كبار الكتاب والمثقفين.

 أثناء مطالعاتي لإحدى الدراسات المترجمة عن الأدب الغربي عثرت على كتاب مترجم عن الفرنسية بعنون ـ  الحب والغرب ـ  للكاتب دونيس دي روجمون ـ واستهل الكاتب تحليل القصة الشهيرة في الأدب الغربي ـ تريستان وإزوت ـ والتي تعد من الأساطير الغربية مما دفع بالموسيقار ـ فاقنرـ لإعدادها أوبيرات لا تزال تعرض إلى يومنا هذا. وما شدّ انتباهي إلا شيء واحد هو حكم الناقد على العلاقة غير الشرعية في هذه القصة الأسطورة بأنه عمل زنى ويضيف الكاتب:

ـ يبدو لمن يحكم علينا من خلال آدابنا أن الزنا عمل من أبرز الأعمال التي يقوم بها أهل الغرب.

ويضيف لاحقا:

ـ لولا الزنا ما كانت تكون آدابنا بأجمعها، إنها تعيش أزمة الزواج ومن المحتمل أيضا أنها تغذيها، إما بالتغني نثرا أو شعرا بما يعتبره الدين جريمة والقانون مخالفة.

 ويضيف بأن أحد الشراح لهذه القصة الأسطورة يعرفها بملحمة الزنا ويعلق مؤلف الكتاب ـ لا شك بأن التسمية صحيحة ـ

ويضيف حقا إن هذا المجتمع انحل منذ زمن طويل

وقد شهد شاهد من أهل الغرب الذي نقتدي به فكريا وأدبيا وفنيا في أغلب الأحيان ونعتبره مرجعا أساسيا.

  ورغم كل هذه المصنفات التي وضعت على امتداد تاريخنا الإسلامي، والمتضمنة نقل أخبار واقعية أو موضوعة لأغراض كيدية أو للتفكه أو خرافية عن الجنس، ورغم ما أبداه الحافظ الدينوري من عدم تأثيم ذاكر العورات، إلا أني لا أزال أصر على أن هذه المصنفات خاصة بالبالغين يقتنيها من يشاء، أما الإبداع فأرى أنه يطوّع هذه المشاهد بالمجاز والكناية والاستعارة والتورية وهذا أفضل  للذوق الأدبي الراقي.

 والمطلع على الأعمال الأدبية المدرجة ضمن البرامج التربوية أو حتى على هامش المطالعة فإننا نفتقد أعمالا روائية تونسية رائعة، عيبها أنها تطرقت إلى الجنس بطريقة مباشرة وحتى غير مباشرة..

تعليقات