محطات ثقافية في حياتي (7)

شاهد على العصر:

بقلم : الناصر التومي

في عديد التصريحات كنت على الدوام أكرر بأنني فضلت أن أكون الأديب الشاهد على العصر، أجسد معاناة شعب بلدي على امتداد الزمن الذي اخترت الكتابة فيه، وقد امتد هذا الزمن من ثورة علي بن غداهم إلى ثورة 2011 في رواية المصير، آخررواياتي، وأحداث 9 أفريل في الأربعينات في  رواية ـ ليالي القمر والرماد ـ أول الروايات، وفجر الاستقلال والتحول المجتمعي في رواية ـ الصرير ـ وصبح الاستقلال والهيمنة السياسية على الفن في  رواية ـ الرسم على الماء ـ  وضحى الاستقلال وهيمنة السياسي على الإعلام في روايتي ـ رجل الأعاصير ـ والصراع السياسي والديني والفلسفي في رواية ـ عندما تجوع اليرابيع ـ  وهيمنة المناضلين الرموز على الحياة السياسية في رواية النزيف.

لا حظت أن العديد من المثقفين ولا أقول العوام لا يرى جدوى من الاعتماد على الأحداث التاريخية في الرواية، ويخير الخيال المجنح الصرف،  ولكني اخترت أن أضرب عصفورين بحجر واحد، تأريخ  تفاصيل الحدث المهمل، وفي آن أتطرق إلى قضايا نقدية مع الاعتماد على الخيال في الجزئيات.

آمنت أنني يجب أن أخلّد أحداث البلاد خارج التاريخ بل صلب الأدب، أحداث أغلبها يهملها المؤرخون الذين لا يعنيهم إلا الخطوط الكبرى أما التفاصيل فلا تعني إلا الأدب والفن بصفة عامة، و حرصت على أن تكون هذه الأحداث مادة لكل رواياتي تقريبا.

تأثير البيئة لاجتماعية الاجتماعية في الكتابة:

   ضمن حوار أجراه معي الصحفي محسن بن أحمد بالصباح الأسبوعي استفسرني عن مدى تأثير البيئة الاجتماعية في  كتاباتي القصصية، فكانت إفادتي أن بيئة الكاتب هي عالمه وهي فضاء همومه، ومنها يختلق شخوصه ويستلهم أحداثه، ومن خلال الكتابة يمكن الحكم على القاص، أكان وفيا لمجتمعه وقضاياه أم كان منبتا عنها، متنكرا للذات والكيان والتراث.

أما بخصوص كتاباتي في القصة القصيرة والرواية فقد حاولت أن أجوس بين ثنايا وجزئيات بيئتي سواء ما اتصلت بالقرية وعالم البداوة، أو تلك التي أفرزتها المدينة التي قضيت فيها أكثر سنوات عمري، محاولا إبراز الصور المختلفة ضمن قضايا متعددة كالفقر والجهل والحب والحقد والعقد النفسية والعدالة والظلم، مظهرا على سطح الأحداث بعض علل المجتمع الفاسد، منددا صارخا رافعا أصابع الاتهام.

أكاد أجزم أن جل شخوص قصصي ورواياتي ومواضيعها هي من خلق بيئتي وما كنت إلا ذلك الرسام الذي أعاد رسم مشهد طبيعي لكن بطريقته الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد.

أنا سجين بيئتي ولا أرى في غيرها مادة للكتابة وتأثيرها غير خفي، ومهووس بقضاياها في الحرية والشرف، أترصد أحداثها وأقوم بتركيب ما تناثر منها وتشكيله، وأبرزه ضمن قصصي ورواياتي.

أحسن القصص:

 لطالما اعتبرت أن القصص القرآني هو أحسن القصص، في قوله تعالى في سورة يوسف الآية 3 & نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا لك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين&، فلماذا أطلق الله على القصص القرآني أحسن القصص، فلا شك أنه  تتوفر فيه عوامل تؤهله لأن يتمتع بهذه الميزة،  والقصص الواردة بالقرآن بداية من خلق آدم وعدم سجود إبليس له دون بقية الملائكة، وعصيان آدم لمولاه بأكله وحواء من ثمار الشجرة المنهي عليها، إلى قتل قابيل لهابيل، والطوفان، والأحداث التي جدت على النبي إبراهيم وبنيه اسماعيل ويعقوب ويوسف وموسى، وما حدث لأقوام لوط وعاد وثمود ومدين، إلى حين بعث عيسى وصلبه المزعوم، كلها كانت من أبرز القصص التي  وإن وضعت للعبرة والعظة فقد كانت تحمل شحنة تأثيرية إنسانية، وهي ليست عادية في العموم، وأضفت عليها خوارق القدر ومعجزاته ما جعلها خالدة عبر الأزمان، ومن هذا المنطلق نتحقق أن القصص الحق لا بد أن يكون له التأثير المباشر في النفس البشرية، سواء أتعلق الأمر بعقيدة هذا الإنسان، أو بإنسانيته، أو بمجتمعه أو أسرته الضيقة، لا أن يكون مجرد تهويمات، وحكايات عادية غير مؤثرة في النفس البشرية، لذلك ما كنت أنجرف وراء أي خاطر يستبد بي، بل  قد لا أختار من عشرات  القصص إلا أحسنها وأفضلها، تلك المتعلقة بمصير هذا الإنسان، لا تلك الهامشية والتي لا تحرك في النفس أي شعور.

ـ  الوضوح:

أثار مصباح بوحبيل قضية في كتاباتي، ألا وهي مساعدة القارئ على سرعة استيعاب القصة، وفهم مراميها، وفي الواقع كنت من البداية أحاول أن أكون صديق القارئ، فلا أتعبه، وإنما أعبر به مسالك مريحة، وأبعد عنه أحاجي  الرموز وطلاسمها المنغلقة على نفسها، أو الغموض المبهم، وقد أستغل مثل هذه التقنيات أحيانا لكن دون إسراف، وبيسر، فأضع نفسي مكان القارئ، فإذا بدر مني ما قد يشكل على القارئ أتولى المراجعة وإبراز مغازي القصة بشكل أوضح.

 لم تبعث القصة لتشكل على الأفهام بالطلاسم، إنما لتفهم من أول سماع أو قراءة، فهي أداة ترفيه، وتسلية في البداية، بحكم تولي كبار السن الأوائل قص الأحداث والعجائب والغرائب والخرافات على النشء الجديد، ثم تطورت لتصبح جزءا من الأدب، أساطير، و مسرحا، فرواية فقصة قصيرة، واستغلتها السينما حديثا، أي لا تزال إلى يومنا هذا أداة إعلام وترفيه، فلا بد أن تبلغ القارئ أو السامع أو المشاهد بيسر ولا تستشكل عليه، مثلما هو شأن بعض الكتاب الذين جعلوا من القصة القصيرة أحاجي، لا إجابة عنها إلا في عقول كتابها، وكأنما هم يكتبون لأنفسهم أو للنخبة أو للنقاد، بينما القص موجه للجميع دون استثناء، يستوجب أن تراعى فيه قدرات الاستيعاب المختلفة.

تعليقات