محطات ثقافية في حياتي (8)

لم ينصفني النقد:

بقلم : الناصر التومي

 لاحظ العديدون أنني لم أنل من الحظوة النقدية للتعريف بكتاباتي مثل بقية الكتاب، سواء ممن سبقوني أو من أبناء جيلي، أو حتى من الجيل اللاحق، والحقيقة أن أغلب النقد ببلادنا لا يخضع للنص المقدم، بل لجوانب لا تمت إلى عالم الأدب والنقد بصلة.

وقد وجه لي الصحفي نور الدين بن الطيب سؤالا في أواخر التسعينيّات ضمن حوار أجراه معي بجريدة الشروق عن أسباب تجاهل النقاد لأعمالي الأدبية رغم أنني من أغزر الكتاب إنتاجا، فبينت أن ما تحقق هي كتابات انطباعية من بعض الأصدقاء الكتاب، أما النقد الأكاديمي الصرف فلا يشملني، لأنني لست دكتورا في الجامعة ليكتب عني طلبتي، وكرامتي تمنعني من أن أتمسح على أعتاب هؤلاء النقاد حتى يشملني فيض كرمهم. ومن الأسباب التي تجعل النقاد الجامعيين يحجمون عن تناول كتاباتي باستثناء الدكتور البشير الوسلاتي الذي لا ينظر إلا إلى النصوص من خلال تعامله مع النقد الأدبي، هو تعاليهم عن تناول إبداعات ممن لا ينتسب إلى مهنة التعليم سواء الجامعي أو حتى الابتدائي، إضافة أنهم يعتبرون العصامي متطفلا على مجالهم الأدبي ووجب تجاهله.

 فلكي تأخذ مكانا تحت شمس النقد، لا بد أن تكون إما أستاذا في الجامعة ليكتب عنك زملاؤك من الجامعيين، وإن تعذر فتلامذتك، أو تنخرط في لوبي ثقافي إعلامي يجبرك على الرضوخ لهم، تصاحبهم في جلساتهم الأدبية وغيرها، تشاركهم طروحاتهم حتى لو لم تكن مقتنعا بها، تجاملهم ولا تغضبهم برأي مخالف، ولا تجعل لك مبدأ خاصا بك يتنافى وتحررهم من كل مبدإ، فأغلب المنتمين إلى الساحة الثقافية، لا يرون في الكاتب إلا أن يكون متحررا من الثقافة الدينية، وحتى العادات والتقاليد المحافظة، وإن تمسكت بها وضعوك في قالب ـ رجعي ـ لن تخرج منه.

وقد يكون هناك استثناء، لكنه في الجانب السلبي، فقد حضرت ملتقى أدبيا كان يقام سنويا، بمدينة داخل الجمهورية، وحضر أستاذ جامعي متحصل على دكتوراه الدولة لإلقاء مداخلة حول قصة في ثانية لا تتعدى الصفحة لقاص عصامي من الجهة، وبعد قراءة القصة من قبل كاتبها الذي كان حاضرا، قضى هذا الدكتور أكثر من ثلاثة أرباع الساعة في شرح مدلولات هذه القصة ورموزها وغاياتها ومغازيها بين دهشة الحاضرين الذين لم يجدوا فيها أي شيء مما ذهب إليه حضرة الدكتور، ولم يطق أحدهم صبرا فعلق على مسمع من الجميع بأنها قصة تافهة، فأنى لها هذه الميزات، ولما غادرنا القاعة اقترب مني أحدهم وقال بئس هذه الشهائد العلمية الجامعية التي تجعل أصحابها مرتزقة، وقال انظر هاهو صاحب القصة يمسك الدكتور من ذراعه ويصحبه إلى الحانة.

 وقد تناول كتاب القصة المدرجون طي هذا الكتاب نقد كتاباتي في القصة القصيرة، وكذلك ما تعلق بالروايات، وأغلبهم من أعضاء نادي القصة، ومن رواده، ولم يكن من بينهم من الجامعيين إلا الدكتور ـ البشير الوسلاتي ـ

وهذا ينسحب أيضا على الجوائز الأدبية، فإذا لم تكن منخرطا ضمن هذه اللوبيات فلن تسند لك الجوائز القيمة أي من الدرجة الأولى، وإن حدث فتسند لك درجة متدنية، يرمون لك عظما لا لحم فيه لإسكاتك، ودحض حجتك عليهم. العديد من أعمالي الروائية نالت إعجاب الساحة الثقافية واعتبروها تفوق الأعمال المتوجة قيمة، ولكن اللوبي الثقافي والإعلامي له كلمته التي لا ترضخ لمعايير الجودة بقدر ما تخضع للمفاسد ـ هذا من جماعتنا يستحق، وذلك ليس منا يحرم.

 أسندت لي في الرواية ثلاث جوائز:

ـ الأولى جائزة علي البلهوان لبلدية تونس سنة1979 عن مخطوط روايتي ـ ليالي القمر والرماد.

ـ الثانية جائزة ابن رشيق لاتحاد الكتاب التونسيين لسنة 1995 عن مخطوط روايتي الصرير.

ـ الثالثة الجائزة التقديرية للجنة تحكيم جائزة كومار سنة 2005 عن   روايتي الرسم على الماء .

والملاحظ أن الجائزتين الأوليين أسندتا لمخطوطين مع إخفاء اسم الكاتب، ولو علموا صاحبهما ربما ما أسندوا لي الجائزة، أما جائزة كومارـ العظم دون اللحم ـ  فأتت لإرضائي وإسكاتي، نظرا وأني حرمت قبل ذلك من الجائزة عن روايتي ـ النزيف ـ باعتراف عضوين من لجنة التحكيم ، محمد بن رجب وآدم فتحي .

 أما في القصة القصيرة فقد كان من المقرر أن تسند لي وزارة الثقافة الجائزة الثانية عن مجموعتي القصصية ـ " الأقنعة المحنطة "  سنة 1998، بينما تسند الجائزة الأولى للدكتور محمد الباردي عن روايته ـ حوش خريف ـ

لكن الوزارة حجبت جوائز تلك السنة، وتوقفت بعدها عن إسناد الجوائز الأدبية إلى هذا التاريخ.  

 وحتى الإعلام  كان له نصيب في تجاهلي، ولعل الأخ محمد بن رجب كان أكبر مشجع لي طيلة حياتي الأدبية، فكلما أصدرت عملا إلا وعرف به ونوه، ففي حصاده للكتاب التونسي لسنة 1997 الذي أجراه بجريدة الصباح صنف روايتي الصرير ـ الثالثة ـ من بين 17 رواية تونسية، وصنف مجموعتي القصصية " الأقنعة المحنطة"  الأولى من بين 16 مجموعة قصصية، والتي من خلالها علق قائلا:

ـ أثبت الناصر التومي في السنوات الأخيرة أنه كاتب مهم جدا ولا بد من الانتباه إليه، فقد أصبح خبيرا بالنفس البشرية، وهو الآن قادر على أن يكشف لك حقيقة المزيفين، أولائك الذين يضحكون وهم حزانى، ويبتسمون في وجهك وهم يخططون لطعنك في كل حين، وهو قادر على أن يحب الناس في عصر كثر فيه الحقد والكره، إنه صاحب حس مرهف، وهذا يكفي لكاتب حتى يكون صادقا ومتميزا في إبداعاته.

كما أن الكاتب يوسف عبد العاطي كان حريصا على التعريف بكتاباتي بجريدة الصباح .

و بعد تقاعد بن رجب تصحرت الساحة الإعلامية فلم تعد تعتني بالثقافة إلا نادرا مع الأخت علياء بن نحيلة بجريدة الصباح، ونور اليد بالطيب في الشروق.

    الحقيقة إن الساحة الثقافية والإعلامية كانت تعج بالمشرفين على البرامج الإذاعية والتفلزية، والصفحات الثقافية بالصحف اليومية والمجلات الأسبوعية، والشهرية والفصلية، ثقافية كانت أم فنية عامة، وكل المشرفين على هذه القنوات يلهثون وراء كل جديد سواء القصص القصيرة أو القصائد، أو أخبار الإصدارات الجديدة من مجموعات قصصية وروايات ودواوين وغيرها من الأجناس الأدبية، وذلك دون أي جهد كبير يذكر من هؤلاء الكتاب، ودون أن يريق أحدهم ماء وجهه ليتسول خبرا عن إصداراته.

  لكن فجأة بزوال هؤلاء المشرفين الأوائل على الإعلام الثقافي بالبلاد، وحلول رهط جديد من الإعلاميين تغير المشهد الثقافي كليا، رهط أشربوا فيروسات الحسد، وتركيع القامات الأدبية إلى نوازعهم المصلحية، فبات الأمر بالنسبة إلى الكتّاب أشبه بالولادة القيصرية، فبعد المخاض الذي يدوم سنوات، تفاجأ بالإهمال التام، واللامبالاة، وعليك إذا أردت أن ينشر عنك خبر أن تتمسح على أعتاب مكاتبهم أو خماراتهم لكي يتفضلوا عليك بكلمات تعد على الأصابع، وليس فيها أي جهد بلاغي، وكأنهم غير راضين عن ذكر اسمك، أما من يستجيب لنزواتهم فإنهم يحاورون من لم يحبروا سطرا منذ عقدين، ينفخون في قِرب مثقوبة، لا لشيء إلا لأن هؤلاء يستجيبون لطلباتهم " التشحيمية" أما الذين يتربعون على مشهد النشر منذ ثلاثة عقود باستمرار ولا يركعون لهؤلاء الإعلاميين لتمسكهم بقيم النبل، ويعتبرون الكتابة مسؤولية وتمسكا بالمبادئ السامية قبل كل شيء، فإنهم لن يمروا حتى يرضخوا، هؤلاء الرهط من الإعلاميين هم الذين ابتليت بهم الساحة الثقافية، وها أن المشهد الثقافي تحت بصر الجميع، إنه مشهد مسخي يحكي ما آلت إليه الثقافة ببلادنا.

سأبقى طاهرا من هذا الدنس، ولن أركع لهم مهما تفننوا في إهمالنا إلى أن تحدث المعجزة، ويستبدل هؤلاء بمن يخدم الأدب التونسي دون ضغائن، وتصفية حسابات، ومنافع خاصة، ودون تصنيف،  هذا عصامي، وهذا جامعي، وهذا ابن جهتي، وهذا جليس خمارتي، وهذا ليس فيه ما يفيدني، فبئس الثقافة إن كانت تحاكي في تعاملاتها صعاليك الحارات.

تعليقات