محطات ثقافية في حياتي (9)

التوقف عن كتابة القصة القصيرة:

بقلم : الناصر التومي

 اعترفت أثناء تقديم مجموعتي الأخيرة & حدث ذات ليلة& بنادي القصة بأنني لم أعد أستطيع مواصلة الإبداع في جنس القصة القصيرة، وتعجب البعض من ذلك وخاصة أنني لا زلت أخوض غمار الرواية وبانتظام، ولعلي لم أوفق في إقناع الحاضرين، وحتى من خلال محاورتي من قبل يوسف عبد العاطي  وهيام الفرشيشي ضمن لقاءين صحفيين، وأشار إليه الأديب خالد لسود لدى تغطيته لهذا اللقاء بجريدة الصباح، فقد بقي هذا الموقف ضبابيا، وقد يناقض في أي وقت من قبلي فأعود من جديد إلى عالم القصة القصيرة، لكن ها أني إلى حد هذا التاريخ عاجز عن تحدي نفسي،  فأطيح بهذا الجدار الحديدي الذي وضعته بيني وبين القصة القصيرة التي شهدت بروزي على الساحة لمدة أربعة عقود.

 الإشكال أن توقفي عن كتابة القصة القصيرة لم يتزامن مع تاريخ اللقاء الأدبي سنة 2004 بل كان قبل ذلك بعشر سنوات، فلم أكتب خلالها القصة القصيرة إلا نادرا مع قصتين أو ثلاث، أما قصص المجموعة الأخيرة فقد كانت منتخبة نوعيا من القصص التي كتبتها طيلة ثلاثين سنة.

القصة والدراما.

 بدا لي من خلال اطلاعي على جنس القصة القصيرة  سواء في مظانة العربية أم الغربية، أن القصص التي اشتهرت، ورسخت في الذاكرة هي تلك المؤثرة في النفس البشرية، أي التي لامست الإنسان إما في معتقده، أو حريته أو جسده أو عرضه أو ماله، وهي تفاعلية بالأساس، ففيها الفعل ورد الفعل البارزان، وهي تلك التي يمكن تحويلها إلى دراما، في المسرح أو السينما أو التلفزة وهذه قد تخلد أزمانا لاكتسابها لشحنة التأثير والحركة، أما تلك المنقوصة من هذه العوامل، والتي كانت ذهنية بالأساس فهي غير قادرة على مقاومة الزمان والنسيان، بل هي قد تنتهي شحنتها بمجرد الانتهاء من قراءتها.

 أصبت بعقم مواصلة خوض تجربة القصة القصيرة، خلال آخر التسعينات من القرن الماضي، وباءت محاولاتي بالفشل، أهم بالكتابة فأخط بعض الفقرات ثم أنكرها فأرميها جانبا، وتتجدد المحاولات ويتجدد الإخفاق، لأكتشف أن ما حبرته لا يليق بكتاباتي السابقة، ولا يحاكي حتى التجارب التي تخوضها الأجيال الجديدة، وبعد تمعن وقفت على حقيقة، أن جنس القصة القصيرة وما يتخلله من ضوابط وتحديدات تمردت عليها طويلا لم يعد يلائمني، أصبحت أتوق إلى حرية أكثر في التعامل مع القص من خلال تعدد الأحداث والشخوص والأمكنة والأزمنة والأصوات، ما جعلني أنجذب إلى عالم الرواية الرحب الذي يسع كل المضامين والأشكال بشتى التقنيات وتعددها، بخلاف القصة القصيرة التي تتطلب انضباطا محسوبا لم أعد قادرا على مسايرته والالتزام به، لكن مع هذا فأنا غير يائس من العودة إلى القصة القصيرة، ولعل ذلك يكون قريبا.     

القصة المثالية

 من خلال تعاملي مع جنس القصة القصيرة لمدة قصيرة تزيد عن ثلاثة عقود أسفرت عن وضع أكثر من سبعين قصة قصيرة، ومن خلال اطلاعي  على أغلب المجموعات القصصية لكتاب تونسيين، وكذلك لأحسن الكتاب العرب، وعدد لا بأس به من إبداع فحول كتاب القصة القصيرة الغربيين، تبين لي أن هناك قاسما مشتركا بين القصص الناجحة في كامل الأصقاع سأحاول تبيانها كالآتي:

ـ الحدث الإنساني الذي يمس البشر في نفسه أو دينه أو ماله أو جسده أو عرضه، يكون مؤثرا في نفس المتلقي أيا كان مكانه، ومهما كانت الفوارق الدينية والعرقية.

ـ الابتعاد عن الشعارات الإيديولوجية، والاكتفاء بالحفر في الجانب الإنساني.

ـ التشبث بالأصالة في مجتمع الكاتب لأنها تمثل تجذره وتبعده عن الانبتات و الحفر في الواقع المعيش للكاتب وبيئته وخصوصية مجتمعه.

ـ التفرد بأن لا يقلد أي كاتب ولا يستظل بغيره.

ـ أن يبحث عن الجديد في الشكل وحتى في المضامين التي يفرزها، وما جد من ظواهر وأحداث غير مسبوقة.

ـ أن  تكون أحداث القصة تحرك الشخصيات، تفرض الفعل ورد الفعل، ولا يهم سلبا كان ذلك أو إيجابا، حتى يمكن استغلال القصة في عمل درامي سواء كان في المسرح أو في المجال السينمائي.

ـ عدم استفزاز القارئ بانتقاد دينه، أو وطنيته، وتجنب المشاهد الجنسية المباشرة الغير موظفة، ويمكن طرح ذلك بالتلميح لا التصريح.

ـ الوضوح هو أقرب طريق لإيصال المضمون إلى القلوب، وتجنب المغالاة في الرمزية والغموض المبهم، لأن ذلك مدعاة لقطع خيط التواصل بين الكاتب والقارئ.

ـ اللغة الميسرة، المفهومة من الجميع، فلا هي عصية على الفهم إلى حد التقعر، ولا هي بسيطة إلى حد الإسفاف.

تعليقات