كلمة حق في صاحب دار سيراس

كلمة  حق في الفقيد محمد بن اسماعيل صاحب دار سراس للنشر

بقلم : الناصر التومي

  جمعتني ومحمد بن اسماعيل صاحب دار سراس للنشر في غير مجال النشر بل فرضته طبيعة وظيفتي الأمنية، فقد كنت في بداية الثمانينيات أتبع الإدارة الفرعية لأبحاث الاقتصادية، وأثيرت فجأة قضية صوفي بن حسين وسرقة أموال شركة أجيب من قبل محاسبها والمذكورة آنفا، وسحبت الآبحاث أحد رجال الأعمال المعروفين الذي لا يزال حيا، وكذلك محمد بن اسماعيل الذي لم تكن له علاقة بالقضية بل ذكر اسمه بأحد الفاكسات لا غير، وجاءت التعليمات بإيقافه إلى حين استيفاء الأبحاث، ونقل إلى السجن التحفظي بقمرت حيث يودع أصحاب الجاه والأعمال المرموقين بعيدا عن سجناء الحق العام ببوشوشة.
  لكن ما إن عادت السيارة التي نقلته إلى قمرت حتى أمر رئيس الإدارة بإعادته للإدارة من جديد، وأطلق سراحه بإذن من المدير العام للأمن الوطني رئيس الجمهورية لا حقا زين العابدين بن علي. وهو يتردد على الإدارة لمواصلة البحث معه أهديته مجموعتي القصصية ـ كل شيء يشهق ـ ويومها لم تصدر بعد روايتي ليالي القمر والرماد رغم حصولها على جائزة علي البلهوان لمدينة تونس سنة 79.80 .وشجعني على مواصلة مسيرة الكتابة.
ويمر عقدان دون أن نلتقي إلا في مسألة النشر، فقد تحصلت على توصية بالنشر من إدارة الآداب لمجموعتي القصصية الأشكال تفقد هويتها في عهد مديرته الأديبة المرموقة الرائعة ـ نافلة ذهب ـ فقدمتها إلى محمد بن اسماعيل ، ولما همّ بطبعها صدم بشروط الوزارة في عديد الأشياء التي لم يوافق عليها، وقال بأنه سينشرها دون الاعتماد على التوصية بالنشر وحسب شروطه هو، فكان أن طلبت منه أن يسمح لي بنشر المجموعة بدار نشر أخرى بما أنها متحصّلة على التوصية وقبول مجموعتي القصصية الثانية ـ الأقنعة المحنطة ـ فكان الاتفاق، وأصدرت سراس ـ الأقنعة المحنطة ـ وأصدرت سار سحر ـ الأشكال تفقد هويتها ـ الموصى بنشرها. ولما رشحت ـ الأقنعة المحنطة ـ لنيل جائزة وزارة الثقافة في التسعينات زكتها اللجنة بنيل الجائزة الثانية بينما الجائزة الأولى تعود للدكتور الفقيد محمد الباردي عن روايته ـ حوش خريف ـ وأعلم الدكتور محمود طرشونة محمد الباردي بالأمر بعد سنوات،  لكن بما أن السنة التي ما قبلها حجبت الوزارة تسليم الجائزة لعبد القادر بالحاج نصر عن روايته ـ الإثم ـ على أساس أنها تنتقد النظام القائم بواسطة همز ولمز أحد الرموز الثقافية بالبلاد، فقد حجبت جوائز السنة التالية وإلى حد هذا التاريخ لم تسند الوزارة جوائز الإبداع.
  وكلما اتصلت بالسيد محمد بن اسماعيل لتقديم الدعم إلى نادي القصة لم يبخل، وحدثني في إحدى المرات بما أهمه من نظام بن علي حيث رشحه الرئيس بأول حملة انتخابية له، وإثرها سمح بن اسماعيل لنفسه إبداء النصيحة له، عندما نشرت سراس كتاب الصادق شعبان بعنوان ـ بن علي والطريق الى التعددية  ـ سنة ، 1995أطنب كاتبه  في تمجيد بن علي وحكمه،  فطلب من محمد بن اسماعيل من الرئيس بأن يجنب هذا الكتاب فضاءات الحزب من لجان التنسيق والشعب وغيرها من الخلايا الحزبية حتى يضفي عليه الجانب الثقافي، فلم تعجب الرئيس هذه الملاحظة، وفي مرة لاحقة طلب بن اسماعيل من الرئيس تمكين الشعب من الحريات وإضفاء الديموقراطية على الحكم وهذا يكون في مصلحته هوقبل كل شيء، فكانت إجابة بن علي أن شعب تونس لن يساس بالديموقراطية.
  والنتيجة كانت أكثر من ستة أشهر وفريق من المختصين في الآداءات يحتلون المؤسسة ينقبون في كل ورقة، ويصورون بواسطة الناسخة التابعة لسراس كل وثيقة صغيرة كانت أو كبيرة.
جمعتني به عدة لقاءات بمكتبه وكان يدفعني إلى مزيد الحضور الثقافي ومما أذكره انه كان معجبا بنشاط حسن بن عثمان في مجال الإبداع والصحافة معا، لكنه صرح لي بأن نشر الإبداع لا يضفي عائدات مالية على المؤسسة بل إن مخازنه لتضيق بهذه النوعية من الكتابات الغير قابلة للترويج، وفعلا وفوجئت مرة بنهج الدباغين بمئات كتب سيراس الجديدة بما فيها مجموعتي ورواية حوش خريف للباردي وغيرها من الأعمال تباع في محل لبيع الكتب القديمة تخلصت منها دار سراس للتخلص من عبء خزنها.
  دفعت محمد بن اسماعيل للمشاركة في مناقصة بيع جوائز يوم العلم لتعاونية الأمن فكانت له لسنة واحدة، وكانت من ضمن الكتب التي رشحها لإسنادها للمتفوقين في شهادة الباكالوريا مجموعتي القصصية ـ الأقنعة المحنطة ـ فما كان مني إلا أن أرجعت كمية المجموعة إلى مؤسسة سيراس على أن تعوض بكتاب آخر، ولما استفسر نور الدين بن خذر ومن بعده محمد بن اسماعيل أجبتهما بأنه لو مرت مجموعتي القصصية وأسندت لتلامذة أبناء أعوان الأمن لوصل الخبر إلى المسؤولين الكبار في الوزارة، ولفتحوا بحثا في شبهة الفساد باستغلال عملي في ترويج كتابي ليبنى عليه ما لا يحمد عقباه، ويسقط في الماء كل ما بنيته في توظيف الكتب الإبداعية لزملائي من الكتاب، فلبقاء هذا البصيص في ترويج القصة القصيرة والرواية، أضحي بعدم ترويج كتبي، ولم تدرج منشوراتي في جوائز يوم العلم إلا بعد أن أحلت على التقاعد عندما لم أعد مسؤولا عن اقتناء الكتب وكذلك كان الشأن أيضا مع دار سحر للنشر مع محمد صالح الرصّاع لما اقتنينا منه بعض منشوراته.
كان في العهد البورقيبي لا ينصاع لتعليمات رفض تشغيل معارضي الرأي، حيث قبل توظيف المغضوب عليهم من النظام مثل  نور الدين خذر اليساري الذي سجن ضمن حركة آفاق بداية السبعينات.
  في إحدى الجلسات جذب ورقة وقال لي بأنه مراسل إذاعة سويسرية باللغة الفرنسية يمدها بأخبار السياسة أسبوعيا تقريبا، ولما هممت بالخروج لأتركه يصدع بنشرته الإخبارية عبر الهاتف طلب مني البقاء إلى أن أتم التلاوة.
ولا ننسى أن محمد بن اسماعيل ترأس جمعية الترجي الرياضي خلال بداية السبعينات.
رحمة الله على الأستاذ محمد بن اسماعيل صاحب دار سراس للنشر، وألهم عائلته بجميل الصبر والسلوان.

تعليقات