سنوات صحبة الأستاذ (8)

بقلم : محمد المي

الناظر في مؤلفات الرجل التي سخر معظمها لتراجم الرجال مثل الخضر حسين وعبد الرزاق كرباكة وابن هانئ المغربي والشابي والطاهر الحداد وسليمان الحرائري والتيفاشي القفصي وابن منظور والأميرة نازلي فاضل وغير هؤلاء من الاعلام المنسيين أو المغمورين أو المجهولين يلاحظ انها تميزت بمميزات لم تتوافر لدى غيره وأول هذه الميزات هي الابتكار إذ لم يسبق في الذين اختار أن يترجم لهم غيره. هو أول من تحدث عن هؤلاء ولم يسبقه سابق.

ثاني هذه الميزات أن فن الترجمة عنده لا يقتصر على ذكر تواريخ الميلاد والوفاة وتعداد الأعمال بل عادة مايتخذ مواضيع تراجمه مادة للدفاع عن المترجم لهم ، فيسعى إلى أنصاف مترجميه ودحض التهم التي لصقت بهم وازالة ماعلق بتاريخهم من شبهات . ومن هنا نفهم معنى النقد الثقافي عنده إذ هو بمثابة الذاكرة الحية والعين الباصرة التي تسعى إلى رد الاعتبار إلى الأعلام والمعالم لأن الثقافة في تقديره تحصل بالتراكم لا بالقطيعة ، وما على الأجيال الحاضرة إلا البحث عن النقاط النيرة في التاريخ الثقافي والسعي إلى الاهتداء بها في الراهن وفي المستقبل.

ومن هنا نفهم سبب تنبيهه المؤسسات الثقافية والسياسية إلى ضرورة إقامة الاحتفالات والذكريات للأعلام كدعوته إلى الاحتفال بستينية الشابي وستينية ومائوية ميلاد الطاهر الحداد. والاحتفال بمرور ستمائة سنة على وفاة العلامة عبد الرحمان بن خلدون،  أو سر بعثه إلى ملتقيات ثقافية تحمل أسماء الأدباء والمفكرين في مختلف جهات الجمهورية التونسية.

ومن هذا الجانب يمكن أن نطلق عليه صفة المناضل الثقافي الذي غامر وطالب وحقق نتائج ملموسة لا ينكرها سوى الجاحد.

طبعا لم يجن من جراء نضاله المتواصل الورود بقدرما جنى الغيرة والحسد وتثبيط العزائم غير أن وطنيته العالية هي التي جعلته يستمر ويواصل بذكاء تأصيل قيمه التي يؤمن بها .

ورغم انتمائه إلى المؤسسة الزيتونية في فترة اتسمت فيها بالجمود والركود إلا أنه كان صاحب رؤية ثورية تجديدية وصاحب فكر تنويري وعقلاني وقد لمست هذه القيم من خلال مؤلفاته أو حتى معاملاته اليومية،  إذ هو لا يقدم على أخذ قرار إلا بعد عرضه على المقربين منه فتجده يدافع بشدة عن مشروعه ولكن إذا نبهه منبه إلى ضرورة التخلي عن فكرة وكان صائبا فإنه على استعداد للتخلي والتراجع عما كان يدافع عنه ..وهذه ميزة لا تتوافر لدى الكثير.
هذا بعض ما يمكن أن أقوله - في عجالة- عن مؤلفاته وطبيعة فكره،  أما عن حياته الخاصة فهو شديد مع نفسه وشديد مع الآخرين.

تعليقات