حلم مستقطع

نسوقُ الأحلام مثل قطيعٍ

خديجة غزيّل       

نسوقُ الأحلام مثل قطيعٍ

لكن من القطيع قد تهرب قطعة منا

وقد يمرّ الليل طويلا علينا

ونظنُّ الذئبَ دميةَ ليلى ونظنّ الدمَ قطعةَ حلوى

بيدي أرقّع كيس البلاستيك

ليحمل حلمي وهمّك

لا يا أمّي!

هذه حقيبة ظهري وليست حمّالة همّي

أوَّاه! إنّي أريد ان آكل لحمةً وأجري

سمعتهم يغنون سوف نزرع في الوطن اللّحمة

سوف نزرع في الوطن اللّحمة ..

فمرحى يا أمي

ألا يعني هذا أن عُودي سوف يقوى

وأنني سوف أكبر وأعمل أكثر

أوَّاه! في الفصل درسنا أن اللحم يُغْني

ويسمن ..

وقد راودتني فكرةْ ..

قريبا موعد القِرَّةِ ..

عندما نستلم من العمدة كرتونة الطماطم والشّاي والسّكر

دعينا نرتد معطف الفرو ونلبسْ قفازا وجورب

ونبعْها للذئب بثمن أكبر

ثم نشتر بسعرها حَملا وعَلفَا

من قمح وشعير وطلحِ

أوَّاه!

أريد أن ألعب أن أقود الغنمَ أن أرعى الله في المرعى

وفي الليل أقرأ

وأطعم الحلم من اللحم ومن ثمر الطلحِ

وإني رأيت رؤيا ... بأنّا

نسوقُ الاحلام مثل قطيعٍ

لكن من القطيع قد تهرب قطعة منا

وقد يمر الليل طويلا علينا

ونظن الذئبَ دمية ليلى ونظن الدم قطعة حلوى

حُلْم مُسْتَقْطَعْ

قراءة في نص  " نسوق الأحلام مثل قطيع "

لخديجة غزيّل

فتحي بن معمّر

بين أن تقرأ نصّا شعريّا وأن تسمعه بون لا يستسيغه إلاّ ذو حظّ عظيم، مازالت نبراتُ إيقاعات صوت الشّاعرة خديجة غزيّل وهي تقرأ علينا نصّها &نسوق الأحلام مثل قطيع& تُشنّف الآذان وتوقّع في القلب فيَطرب.

مازالت ترفرف طريقة أدائها ونطقها للّفظة الواحدة وللجملة الموسيقية الرائعة &أوّاه& بلكنة طفولية حبورة عابثة مشوبة ببسمة تظهر ما لا تُبطن؛ تُبدي الحبور والفرح ظاهرا وتُخفي ما تخفي من همّ انكسار الحلم الذي استوعبته الأمّ وهي تقدّم كيس البلاستيك لصغيرها لتكون له محفظة بل محملا للكتب والكراريس والأغراض. غير أنّ الطّفل الذي يبدو أنّه تعوّد على سياقة القطيع ظلّ يسوق الأحلام مثل قطيع ببراءة طفولة يوسف الغِرّ، وفي تعْبِير رؤياه تلك فليتنافس المتنافسون. فكيف تُراها تُساق الأحلامُ مثل قطيع؟

المقطع الأوّل من النّص وهو مقطع به ينغلق أيضا بُنِيَ على خمسٍ: الحلم والقطيع والليل وذئب ليلى والدّم. وقوّة النّص في أنّ كلاّ من هذه الأركان الخمسة فيه يتشظّى وينصرف في الزّمان والمكان والصيّغ والسّياقات فلا نكاد نمسك بمعنى ونفرح به ونسكن إليه حتى ينتصب أمامنا احتمال جديد يراودنا بغنج أو يرعبنا كمصاص دماء فنهرع إليه معالجين ونحن ننشد فهما ونلتذّ بفتح مغاليق نصّ غزّيل البديع.

الحلم، حلم طفولي بسيط باللّعب وأكل اللّحم والدّراسة وتحقيق أمل الأم المنكسرة التي ترتّق كيسا من البلاستيك ليكون محفظة بديعة لا بشكلها ومادّتها ولونها بل بما أودعت فيها من لذيذ الأحلام وما أخفت فيها من بائس الهموم والتوجّس وما صبّت فيها من جامّ الغضب على هذا الواقع المرّ الخانق.

الحلم تصرّفه الشاعرة في ردهات النّص بالقسطاس المستقيم فتجعله يسيح إيقاعا رقراقا ويرفرف بأجنحة مختلفة من المعنى وموفور الدّلالات. فهو بداية وبداهة حلم الأمّ، ذاك الحلم الذي تودعه كيس البلاستيك، الحلم بأن يصير الابنُ الأنجحَ والأبرزَ والأحسنَ بين الأقران في المدرسة كما في الحياة ليخرج من دائرة الهمّ الذي تراه فيها.  

" بيدي أرقّع كيس البلاستيك

ليحمل حلمي وهمّك "

وهو حلم الفتى الغضّ الذي يشهر حلمه عاليا ويرفض كلمة الهمّ ويرسم خطّا مستقيما لحياته بملء فمّ الأمل والإقبال على الحياة بأمنيات بسيطة:

"  لا يا أمّي!

هذه حقيبة ظهري وليست حمّالة همّي "

بـ  " لا " النافية في خطاب موجّه للأم يقع الانزياح من الهمّ إلى الحلم تستعرضه الشاعرة في لوحتين حيّتيْن باهرتيْن بعدسة شاعرة ترى ما لا يرى غيرها في بسيط السّعي والحبور ورعي الأغنام. وعبر لفظة  "أوّاه " يترجرج هذا الانزياح بعبارة تحمل الكثير من متناقض المعاني وملتبس القول فـ" أوّاه"  يطلقها القائل حسرة وألما كما يطلقها تعجبّا واستغرابا كما يطلقها رجاء وتمنيّا واستنهاضا للحلم والأمل البكر وشحذا للهمّة والفعل.

ولذلك يتمحّض النّص إلى الحلم، إلى الحلم البسيط، بل إلى الحلم الأبسط بالنسبة إلى البعض وهو حلم أكل اللحم وحلم الجري وأيّ حلم ... وما أقسى أن يصير الجري حلما بعيد المنال، وما أعتى أن يكون اللّحم طَعما لا يُطال. والأكثر قسوة من ذلك أن لا يكون الحلم عفويّا بل يكون وليد استثارة من طرف من يعِد الشّعوب والفقراء والمفقّرين،

"  سمعتهم يغنون سوف نزرع في الوطن اللّحمة " فسماع هذه الأهزوجة الواعدة يُردّدها من يطلقون الوعود جزافا كما يردّدها المهلّلون والمصدّقون جعلت الطّفل - اللاّ مُسمّى في النّص عمدا ليكون عيّنة لآلاف الأطفال الذين يعيشون نفس المعاناة - يُصدّق الوعد ويصيح بفرح طفولي بريء منطلق " فمرحى يا أمّي ". لكنّ التساؤل الذي يطلقه الفتى يقيّد هذا الحلم وهذا الانطلاق وينسّب هذه الوثوقيّة التي نستشفّها من عبارة  " مرحى "  فتنتدب عبارة  " ألا يعني " خيارات عديدة قد تكون كلّها ممكنة لكن هل يتحقّق منها شيء، فتلك الأهزوجة تعني إمكانية اشتداد عوده " عودي سوف يقوى" وإمكانية النموّ والعمل " سوف أكبر وأعمل أكثر". لتعود  " أوّاه"  لازمة إيقاعية وحاجزا كاسرا لتداعيات الأحلام الممكنة المستحيلة حين يأتي ما يشي بأنّ بعض مراجع الحلم ما دُرس بالفصل بأنّ  " اللحم يُغني ويُسمن .. " وليس صدفة أن تسكت غزيّل عن بقية الجملة فحذف  " من جوع " وتعويضها بنقاط مسترسلة مقصود لأنّ الحلم مستحيل كما سيبدو في آخر النّص.

ومن رحم هذا المرجع النّظري المدرسي في مدرسة بينها وبين الواقع هوّة سحيقة للحلم تنبجس فكرة تراود الطّفل عن حلمه فيستسلم مغتلما بالأمل يرجو تجارة لن تبور يُقايض فيها ما يستلمه من العمدة من المساعدات في موسم القرّ بخماسية من الأغراض وأدوات الحلم النّظري الجديد وهي الحَمَلُ والعلفُ والقمح والشّعير والطّلح. لكن المؤلم أنّ من يشتري محتوى كرتون المساعدات ويمنح العناصر الخمسة لحياة الحلم الطّفوليّ هو الذئب وما الإنسان إلاّ ذئب لأخيه الإنسان على رأي هوبز.

ولأنّ الفكرة كالحلم تماما تسبح في دائرة النّظري وفضاء العوالم الممكنة، فقد استمطرت الشاعرة عبارة  " أوّاه" مرّة أخرى شدّا لأزر إيقاع القصيدة وإيغالا في تصوير وجع التردّد بين الأمل واليأس وبين التّفاؤل والتّشاؤم وتعميقا لبؤس المنزلة بين المنزلتين التي تشتدّ بفتى غِرّ يستعرض في لوحة ثانيّة قائمة من حقوق الأطفال التي تغدو في بعض المجتمعات من الأحلام المستحيلة التحقّق. فإذا هي أيضا خماسية العناصر يطلبها بلفظ  " أريد":

" أن ألعب

أن أقود الغنم

أن أرعى الله في المرعى

وفي الليل أن أقرأ

وأطعم الحلم من اللحم ومن ثمر الطّلح"

لكن بين إرادة الطّفل وسطوة الواقع تناقضا يجعل الحقّ في اللّعب غير مكفول، وقيادة الغنم غير مضمونة ولا مأمونة، والقراءة ليلا غير مُتاحة، وإطعام الحلم لحما مستحيلا عقلا وواقعا وسردا في مسار القصّ في القصيدة لأنّ الجملة الخبرية المؤكّدة بـ" أنّ" لا تترك مجالا للشكّ أنّ ما ورد ليس سوى رؤيا عاتية لأنّها ببساطة رؤيا غير صالحة لا تأتي كفلق الصبح. ولذلك قد تهرب من القطيع قطعة أو قطع منّا وقد مزّقنا الواقع كلّ ممزّق فيطول السُهاد ويطول الليل ولا عزاء للطفّل كما لنا أيضا إلاّ أن يظنّ ونظنّ معه أن الذئب دمية ليلى وأنّ الدّم قطعة حلوى، وما أقساها من صورة وما أبشعه من مآل لحلم بُنِي على خمس وانكسر عليها فكان همّا يراكم همّا في ظلمات ثلاث؛ الليل والذئب والدّم.

قوّة نصّ غزيل في هذه المراوحات التي تصنع غنائيته وتعمّق ألمه وتضمّخ القلب حزنا حين تسافر به على أمواج عاتية من الأمل لكنّها سرعان ما تنكسر على صخرة الواقع وذئبوية الاستغلال الأبشع.

تعليقات