القطيعة للنهضة كطوفان نابل


القطيعة للنهضة كطوفان نابل

بقلم الدكتور المنجي الكعبي

ليس المهم أن تنفي النهضة أو تؤكد قطيعتها مع السبسي، المهم هو أن السبسي حليفها الذي تغنت به على لسان رئيسها قبل أيام بمناسبة ذكراه السنوية الخامسة هو الذي أعلن حِلّيته من كل توافق معها في المستقبل.

بل ورمى بالشاهد الذي اصطنعه لرئاسة الحكومة بعد اتفاق قرطاج الاول وفي ظل استغراب الجميع ومفاجأة النهضة نفسها، رمى به الى حوضها ليكرع منه إذا شاء لتجديد ثقة حكومته بالمجلس النيابي، كحد أدنى لإنهاء ما سماه أزمته مع الحوكمة الرشيدة بعد أن أوْهى بالبلاد الى حافة الاختناق السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

وكأنّ الرئيس كدأبه في اختيار من يزكيهم لرئاسة الحكومة، يحبّ أن يبقوا على العهد في الولاء له إذا ما شاءت إرادته السياسية سحْبهم من المشهد الحكومي دون تأخير أو مقاومة.

لكن هيهات. في المناصب السياسية المدنية، تطغى عقدة "فلما اشتد ساعده رماني" على كل اعتبار في ظل القوانين والمؤسسات. ويمكن القول أن السبسي أصيب في الصيد الذي اقترحه رئيساً الحكومة، وأركبه ظهر قاطرة نداء تونس دون أن يكون عضوياً منها. واستعصى عليه بحيثيات المنصب وبالدستور، لولا مظاهرته عليه بالنهضة لتعويضه بالشاهد الذي تجددت مصيبته به، ولكن من نوع آخر، هو بطانته في الحكم من نداء تونس ومن غير نداء تونس، التي تلاعبها النهضة لبسْط اليد الطولى لها في الاستحقاقات القادمة، لاستعادة موقعها المتقدم على جميع الأحزاب على غرار ما حققته في الانتخابات البلدية.

لكن ديناميكية المجتمع السياسي بعد الاستقلال وكيميائية العلاقات الخارجية، هي التي لا تزال تمنع على النهضة التغول في الحكم بديمقراطية الأغلبية المباشرة ولا بديمقراطية نظام البقايا.

والسبسي الذي أوجده القدر غداة الثورة على رأس السلطة التنفيذية المطلقة تقريباً بمعية صديقه المبزع أذاقه القدر نفسه مرارة السلطة التنفيذية العليا المنتقّصة من أطرافها بعد قليل عندما استرجع المبادرة لنفسه في مواجهة النهضة برؤوسها الثلاثة في المرحلة الانتقالية، فوجد نفسه وهو رئيس للجمهورية لا يحكم كبورقيبة. ولكن أن يُحاكيه، اكتشف طريقة للتحالف مع غريمه الى حين. وإذا كان اليوم يعالج أمراً فهو ليس الاستبداد بالسلطة بقدر ما هو أن تمنحه الانتخابات المقررة له أو لخلفه الرئاسة التنفيذية الشاملة. كأردوغان الذي استطاع بكارزميته وحزبه أن يخرج ببلاده من نظام العسكر الى النظام الرئاسي بالتمام.

وقد يكون من قدَر بعض الزعماء أن يورّثوا أنفسهم السلطة بعد كل استفتاء واستفتاء ليفوزوا بالوقت الكافي لإخراج بلادهم من مخنق الزجاجة.    

وبورقيبة الذي لم يُثْنه عن مدى الحياة إلا عجزه عن التوريث في ابنه، عندما كشَف عن انصرافه لهواياته وزهده في السياسة ونضالها المرير مثله.

ولكنْ اِيتني، أو آتِني برئيس دولة لا تأخذه آخِذَةُ النفس الى مطابقة المصلحة العامة على مصلحة نفسه في البقاء بالسلطة، تمكيناً لدولته التي بناها وأسسها أو نظامه الذي وضعه وأخلد فيه، ثم لا تتوق نفسه الى تابيد حكمه!

فهناك دول تتمسك بالتجدد لزعمائها بالانتخاب لهم، وهناك دول تتمسك بالتجدد لانتخاب أحزابهم، وليس بشرطه لأشخاصهم. وهناك دول بين هذا وذلك، كما يفعل بوتين بالديمقراطية في بلاده، طرداً وعكساً، وكما يفعل رئيس الصين بتخويل حزبه الشيوعي له بالبقاء في السلطة الى أجل غير مسمى. وكلهم في الدعوة كسليمان لإلهه أن يهبه ملكاً لا ينبغي لأحد مثله.

وسليمان وهو الذي استورث الملك عن آبائه لم يجد أبعد من أن يطلب من ربه ملكاً (لا ينبغي لأحد من بعدي) إمعاناً في كون الوراثة غير المعززة بالقوة طوراً بعد طور غيرُ غاية في ذاتها لعظمة الدول. إذ المراد، هو عصبية الحكم الحزبية وغير الحزبية. وقد سمّى ابن خلدون من العصبيات أكثر من خمس. فليعد اليه من أراد. وتجدها جميعا مُمثلة أحياناً في أحزابنا، وقد رأينا أشكالاً منها قابلة للظهور وكثيراً منها مضمرة، ليس فقط بعد الثورة ولكن حتى قبلها منذ الاستقلال. ودعْوانا بالنظام الجمهوري، وبالتخلص من العروشية والعصبيات لم يقلّص منها، بالعكس منحها صوراً جديدة.

ويظهر أن عبقرية الدول وعبقرية النُّظم التي تختارها أو تتبعها لا تخلو من تنويع وتكييف بمكيفات الزمان والمكان؛ وأهْداها الى الحق أكثرُها إصلاحاً لذات نفوس أقوامها لا أكثرها انتفاضاً على ذات نُظمها ومقادير أمورها، فتفقِد كلَّ بوصلة للنجاح والازدهار والاستقرار. ورب قطيعة تفعل فيها كطوفان نابل والعياذ بالله.

تونس في 25 سبتمبر 2018 

تعليقات