المجنونة

المجنونة

 

 بقلم : منذر العيني

 

 

-اِسمعني ياأبي من فضلك اِسمعني ....

-أسمعكِ كيف؟ أسمعُكِ حديثُ مجنونة هذا...لاأقبله...لاأقبلهُ.؟.

طويتُ صفحتي و دخلت غرفتي ، عزلتي هي جنّتي الضائعة بين أوراقي البيضاء

ودفاتري المنسيّة ، ودواتي و الحبر. لن أجهر له لن أُريَهُ الضَّوءَ أبدًا.

كانت رُقَيّهْ تُجدّف في صمتها تنحدر إلى الهوّة في خوالجها تمرق بين شقوق الذكرى

 تتململ بين هواجسها .الغرفة صامتة صاخبة في آنْ.

تركتها أمّها وهي في الرّابعة عشر من عمرها. تركتها الحَنّانةُ و حبّاتُ الشّباب تسرحُ على وجنتيها تنبئها بمرحلة جديدة ، ترى نفسها في المرآة آمرأة تحضن الآتي بكلّ أمل فتّان رقيقة في مشاعرها ما إن يكلّمها أحد حتّى تحمرّ وجنتاها من فرط الحياء فتسحب ضوءها إلى الدّاخل و تهرب إلى زاوية قصيّة من الرؤيا لا يلمحها إلاّ من خبرَها صديقة للعصافير

و للأشياء الخرساء ولموسيقى الغرباء. رُقيّة تتقلّب في كلماتها كلحن غجري..

لماذا ربّاه كلَّ هذا العذاب ماذا فعلت حتّى تتركني أمّي ، سأقتل نفسي ذات غدٍ سأمنح جسدي لذئاب الأقاصي ، لن أقبله  لن أقبله ......

كان والدها يهدّدها بأن تتزوّجه .ابن الأكابر بسط نفوذه على القرية كلّها أتى من بعيد سكن في حومة البنيّة سكن ابنه في فكر الأب وأصرّت هي على الرّفض و لم تسكن.

يأتيها كلّ ليلة بنفس التهديدات بنفس الكلمات

-سأزوجك إيّاه بالغصب إن لزم الأمر قل لي ماالعيب فيه لاأريد شيئًا آخر

-لا أريده فقط ...لا يعجبني ...لاأحبّه

 

-اُسكتي يا كلبة يا مقصوفة ..هذا ما تحفّظتهِ من ستار أكادِمي و من السيّدة "روتانا "

-يا أبي افهمني من فضلك اِفهمني

كالعادة ردّ الأب بعنجهيّته المعهودة وطفق يُنزل شتّى الشّتائم ببنات هذا الزّمن الكلب

و يزيد من طاقة صوته فيغرق المنزل في ضوضاءِ قاتمة لاجدودَ لها متى تشرع رقيّة في العويل تضرب بكفّيْها الوجنتين ، تُكسّر ما أتى أمامها مِرآتَها، بعض ألواحِ الطّين التّي آشترتها هديّةً لهُ، المسطرة المستقيمة كنمطيّة عرجاء، كلّ شيءٍ في الغرفةِ تُهشِّمُهُ حتّى ساعتها اليدويّة لم تعدْ تحتملْ تَحِلُّ عقاربها بضربةٍ واحدةٍ لتسرح في مكان وتنفذ سمَّ زمانها المعتوه في هذه اللّحظة، أحيانا لا تكتفي بهذا تفضي إلى صورة أمّها وتغنّي

"مِيمْتي الغاليّهْ يا عِينْ مِنْ عِينَيَّا   مُشْتاقْلِكْ  مُشْتـــاقْ " تترنّحُ في سكرة الوجد.

يطفح الأب من لحظته أيضا ماذا يفعل لها ؟ ماذا يمكن أن يفعل ؟ كيف يهدّئُ من روعها إنّها آبنته الوحيدة

_تريد أن ترتاح منّي عرفت الحكاية، ثقلٌ عليك يا أبي سترتاح منّي عمّا قريب، سيأخذني الموج ذات غدٍ كما أخذ أمّين سترتاح منّي سأسقيك تنهيدة لن تنساها، قلْ لي من الأوّلِ أنّك تريد الزّواج، صارحني لماذا كلّ هذا التخفّي ؟ 

سأذهب سأذهب فورا إلى دار خالي ربّما إلى دار خالتي ربّما إلى دار الأطفال العُوّزsos

 

لايهمّ ربّما إلى دار فخمة إذا شئت ، كن صريحا ، كن واضحا ، ماذا علّمتك أنا ؟...

تريدني أن اتزوّج ذلك الأشقر ، أعجبتك سحنته أم أعجبتك أمواله المسروقة من عرق العمّال ؟

حلّت رقيّة ضفائرها بدت تعوم في مرج أسود ، عيناها غائمتان، وجهها كالح كمرآتها المكسّرة دفنته بين الوسائد

و توسدّت عريها ، جسدها يرتعش ولا شيء يحدّ من غضبها

المنزلق في اللّحظة ،تهافت الصّياح ، أوغل أبوها في الذّكرى  بعد عقد من زمن عقيم .كيف فرح بها عند الولادة كيف خسر الملايين كي تخرج من رحم الأنبوب لألآة كضياء إنّها الخضراء أتت في موكبها الملوكي وأتى معها الخصب .

تدّفقت عليه رقيّة في الأثناء كسيل جارف قطعت عليه وصاله مع الماضي و ذكريات أمّها المحبوبة ...

_تريدني أن أتزوّجه، أنا المجنونة ، سمّيتني المجنونة ، فعلا أنا مجنونة بكتبي حين أسرح فيها ولا أفيق إلاّ مع أوّل نداء لصلاة الفجر أو عند صباح الخروج، أنا مجنونة بأوراقي المخلوطة بدم اللّحظات وعنفوان المكاشفة ، أنا المجنونة بشرائطي التسجيلّيّة من فنّ جَاكْ اِبْرالْ و ناس الغيوان ، أنا المجنونة بلوحاتي التّي لم تكتمل و قماشتي المبلولة بدموعي وألواني القاتمة أنا المجنونة بناي السّماوي أملؤه بصفيري التّائه خلف حشرجة الرّعاة ،أنا المجنونة بسمائي الغائمة الرّاحلة خلف ذكريات أمّي وهي تمدّ لي قرصتي الحمراء من جوف الطّابونة أسمعها تردّد في غمرة الآهة.

 

 لم أكن أعرف ساعتها أنّها مواويل الشّيخ ابن عروس ، فتصعد بها آخر الدّرجات كعواء الأساطير تتفصّد منه رائحة الشّيح والزّعترو الرّاحلهْ تتفصّد منه عزّتها السّعيديّة

"لا تِقلقي لاتذلّي لا تآخذي بُوسْكابهْ    خُوذي وِلْدْ إلّي ما يُولّي سُوقْ البلاءْ ما يهابَهْ"   

أغمضت عينيها و غلّقت الباب .

بدت الصّالة جحيما أزرقا بستائرها الزّرقاء و أرائكها المزركشة بالنّمش الأزرق و بسحنة الأب الممزوجة باللّحظة كسماءٍ تترقب الغيمهْ كبروق آخرة اللّيل.

لم يجد ما يفعله كي يُرضيَ رقيّهْ عاوده جنونه القابع في القاع عاودَتْهُ رٌجْلَتُهُ المجنونة الضّائعة في حدوس رقيّهْ .

حين طرق السيّد "الأزعر" الباب لم يقل لهُ" تفَضّلْ " قال لهُ :" ابنتي مجنونة ليست لي بنات للزّواج ، ابنتي مجنونة ...".اِتْفضلْ البَرّا".سمعته البنيّة خلف الباب الموارب كان صوته كنبوءة حرّى ، داخلها الشكّ فتدثّرت بكامل شجاعتها وآنزاحت منها أعراق الضّوء خرجت من أيقونتها و عانقته " أنت أبي أنت أبي .....أنت أبي الذّي رأيتهُ على فرسِ الماءْ " كانت الغرفة في وهج البحيرة صامتة صاخبة في آن و دموع فرح بلّلت عتبة الدّار...

تعليقات