اختبارات الديمقراطية في تونس : بين مد وجزر

اختبارات الديمقراطية في تونس: بين مد وجزر

بقلم الدكتور المنجي الكعبي 

مثّل التصويت  بمجلس نواب الشعب أمس على التحوير الوزاري الذي أجراه  قبل أيام السيد يوسف الشاهد فرصة جديدة لممارسة المجلس دوره لحل الخلاف، الذي ذهب الى أقصاه  من جهة بين رئيس الحكومة وبين حزبه الأصلي الذي فوضه للحكم، ومن جهة أخرى بين مكونات المشهد السياسي المؤلف من المعارضة المنشقة من هذا الحزب وبين أحزاب الدرجة الثانية التي ظلت الى وقت قريب تبحث عن التموقع الأفضل لها، لاغتنام فرصة هذا الخلاف الذي هي طرف محرك فيه، لضمان حظوظٍ أفضل في الاستحقاق النيابي والرئاسي القادم، والتي كانت كلها على عجل قبل احتساب الوقت الضائع للخروج بنتيجة إيجابية من معركته المستعِرَة منذ مدة طويلة ذهبتْ على حساب الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي والاجتماعى والأمني.

وبهذا تكون التركيبات السياسية والحزبية المعقدة داخل المجلس النيابي وخارجه قد أغرقت نفسها فيما يسمى "المركاتو" من ناحية، ومن ناحية أخرى تكون قد حصدت ما أسسته الانتخابات التشريعية الماضية، التي قامت كما معلوم على نظام القائمات وعلى نظام أكبر البقايا في توزيع المقاعد.

وهذه المحنة الأولى بالنظام الانتخابي الذي قرره الآباء المؤسسون للدستور الصغير وكرّسه الدستور الجديد عرفتْ حركة النهضة الإسلامية التي كانت مستهدَفة من ورائه بتدبير من المعارضة اليسارية، التي كانت تنافسها في السابق في النظامين السابقين على عهد الحزب الواحد ثم على عهد التعددية الصورية، عرفتْ هذه الحركة كيف تستفيد منه وتحرك آلياتها الشعبية وإمكانياتها النضالية للإيقاع بخصومها في سلبياته. وفي مقدمة ذلك، بتغيير ثوبها الديني وارتباطاتها الإيديولوجية والمنفعية مع الخارج واستثمار التطلعات النسائية والشبابية لنسج شبكات من العلاقات توفر لها الدعم الاجتماعي والنفسي لتجاوز معوقات المحاصرة اللصيقة لبرامجها من طرف منظمات المجتمع المدني، الممولة والموجهة من وراء الحدود لإسناد التيارات اليسارية والقوى المتحالفة معها في الخارج عن طريق التدخلات الأجنبية.

وبالنتيجة لهذا الصراع الذي أعقب المرحلة الانتقالية ومرحلة تطبيق الدستور الجديد عبر نظامه الانتخابي النسبي توصلت النهضة الى إثناء خصومها عن التفكير من جديد في تحجيمها أو إقصائها بالقدر الكافي لتحقيق أغراضهم بالنسبة للانتخابات القادمة عن طريق ما تنادَوْا بالدعوة له، وهو تعديل الدستور باتجاه نظام الأغلبية في الانتخابات، وربما إقرار النظام الرئاسي على غرار ما هو معمول به في فرنسا لتجاوز سلبيات النظام السابق الذي وتّر الأجواء السياسية الى حد الاضرار بالاستقرار اللازم للتنمية والأمن. فتهيأت لهذا التعديل بما تمتلكه من ثقل برلماني معزز بالاتئلاف الشاهدي الجديد واستغلال ضعف بعض المستقلين الذين تعرف تهافتهم على قوائمها الانتخابية لانتشال أنفسهم من العزلة الحزبية.

فالمواجهة القادمة بعد هذه الجولة التي كسبتها النهضة بتثبيت اختياراتها بدعم حكومة الشاهد الذي تكون بها قد استبدلت على قول القرآن ((الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)) وتحديداًاستبدلت ما نقَصَها من توافق رئيس الجمهورية الأستاذ الباجي قايد السبسي، الذي كأنما أسلَمها بحركة مسرحية الى حتْفها أو مصيرها المهدد بالإقصاء، بسبب القطيعة معه حين خالفت عليه في قضية "ابنه" الشاهد في حزبه والحكومة.

هذه الجولة الجديدة للنهضة، بعد تثبيت الشاهد وتكوين ائتلاف برلماني بينها وبين أفراد من المؤلَّفة مصالحُهم معها من المنشقين من حزبه، ستخوضها لإقرار التشريعات المناسبة بطبيعة الحال لتعديل النظام البرلماني والرئاسي باتجاه مزيد من التمكين للخط السياسي الذي تنتهجه بمعية حلفائها الجدد، لغزو السلطة من أطرافها في الخمسية القادمة على أقرب تقدير. ويكون بذلك لديها الوقت لاستعادة ما فقدته بسبب التنازلات الموجعة والتكتيكية التي قدّمتها على مذبح السلطة من أجل الانتصار لمبادئها المسوِّغة أصلاً لقيامها في أواسط السبعينات من القرن الماضي كتعبير أصيل عن مطامح الشعب التونسي، ولعودتها بقوة الثورة التي زحزحت نظامين عتيدين تداوَلا على البلاد، عبر ارتداداتها من عقد الى آخر. فكان ذلك أول امتحان حقيقي للديمقراطية رغم تحيّز النظام الانتخابي ضدها، إذ حصدت أغلبية مقاعد المجلس التاسيسي واستطاعت بأخطاء غيرها أو قلة حيلتهم في ملامسة أو ملاصقة الشعب التونسي في حميم حميم (مكرر) تطلعاته لمستقبل أفضل من السيادة والتعبير عن نفسه بحرية وامتلاك إرادته بنفسه للخروج من التخلف والتبعية المقيتة، ومن الانسلاخ عن هويته الحقيقية كشعب عربي مسلم غير منافر ولا مُعانف ولا إرهابي ولا عنصري، شعبٍ مُوادِد ومهادن وحَنيف.    

فغياب الحاكم الفردي الذي كان بعد الاستقلال يوازن بين الحداثة وبين الأصالة ليدفع بالجماهير تحت لواء شخصيته المؤثرة نحو الانسجام والانقياد لحكمه، عن طريق الحزب الواحد، الذي يكاد يجمع بين المتناقضات أشدها، أو التعددية الصورية المشكّلة في تجمع حزبي كبير يضم أكثر ما يمكن من التيارات المتعايشة والأحزابالأخرى الصغيرة التي تموج في أحضانه تحت إدارة رئيسها وصانعها وقائدها فيما أشبه بنظام العسكر؛ في غياب هذا وذلك من أنماط الحكم الجمهوري الذي خبرته تونس بعد الاستقلال، جاءت الثورة لزوماً في عالم التحولات الجيوبوليتيكية أو الجيوسياسية، لتنزع تونس عن عزلتها عن محيطها السياسي التقليدي لتدخل رأساً في نظام برلماني تعددي ونظام رئاسي مقزّم الصلاحيات تعويضاً عن سلبيات الفترات السابقة. 

ولعله بعد اجتماع الأحزاب الكبرى كلها اليوم تقريباً على ضرورة الرجوع الى جادة الاعتدال السياسي، بإقرار النظام الأوفى بمصلحة الشعب دون شطط ولا تطفيف، لينبثق عن هذه الصراعات المتكررة التي لازمت مسيرة ما بعد الثورة نظامٌ انتخابي أمثل. فيعاد صياغة المشهد السياسي بين معارضة تلزم حدودها الدستورية وأغلبية تلزم حدودها الدستورية كذلك. ولا يعود المشهد مشهد بَهْلوانات في سيرك للفرجة، تُحرّكها خيوط لا تُرى لإحداث المفاجأة والاستطراف. ولكن واقع الحال في خارج المسرح ينوء بثقل المهمات التي تنتظر الفاعلين السياسيين مباشرتَها بما يلزم من جد وصرامة، ومن تضحية من أجل أن يسعد الآخرون، لأنها تلك هي ضريبة الحكم. 

وطبيعة السياسة كفيلة بذاتها بتطهير نفسها من شوائب الغُثاءالذيتحملهالأنهار نحو البحر لإعادة تدويره كما يقال في التعبير الصناعي اليوم.

وهل من رجل وامرأة ليقول لنائب أو نائبة في المجلس اليوم أو لمجموعة منهم لا تعودوا في المدة النيابية القادمة لتلعبوا نفس اللعبة الجهنمية التي أوقعتم البلاد فيها فلم يصلح لكم نظامٌ نِسْبي ولا تبقوا حتى لا يصلح بكم نظام أغلبي. فالانسان هو مَلاَك هذه الأنظمة وليست صالحة أو فاسدة لنفسها. ولكن وراء كل ذلك الأخلاق والقيم التي يتربى عليها الفرد. وكم من معارض قديم ندم أو كفّر عن تطرّفه بالممعارضة أيام شبابه؟ ولكن كان الأفضل له ما دام مزاجه قد تربى على ذلك أن لا يُحاكِم المعارضة اليوم بنفس تطرّفه في الصغر لمجرد كونه أصبح في الحكم، وكان ينبغي له أن يتجنب تولّي السلطة لسابقته بالمعارضة غير المترشّدة، حتى وإن كان ندم وكفر عن ماضيه أو لقيَ ما لقيه أمثاله من المتهورين من العقاب والسجون. فليست مواد التعويض السياسي عن النضال القديم احتسابُ سنوات السجن والتعذيب والمنفى وحدها إن لم تكن سُلّم القيم عند الفرد نفسه لم تتلوّث بأحوال ذاته من طيش ورعونة، ومن كمّ متراكم من الأحقاد والانفعالات الشخصية تجاه من ليس مثله مزاجاً أو سلوكاً أو حصيلة سجنية عندما تدفعه ظروفُ ثورة أو نحوها الى سُدّة الحكم.

 

تونس ١٣نوفمبر٢٠١٨

تعليقات