الثقة والولاء والقسم في السياسة

الثقة والولاء والقسم في السياسة

بقلم الدكتور المنجي الكعبي

ألصق المفاهيم بالمواطن العادي في الدولة هي مفاهيم اعتقادية قديمة مع الإنسان، لأنه بدونها لا يفهم موجباً للطاعة والاطمئنان الى من له مقاليد مستقبله في الدولة.

وبقيت هذه المفاهيم حية من حسن الحظ، حتى مع الدول الأكثرِ أصحابُها علمانية، أو قل: رقة دين، كما هو معتَقدُ من لا يُولى للاعتقادات الدينية أهمية عملية في حياته، ولكن موجبات الحكم تفرض عليه أن يكون على دين مواطنيه، أو رعيته بعبارة قديمة.

لكن في الدول التي لا يُولي أصحابها أهمية لهذه المقوّمات للسلطة في نفوس المواطنين، نرى فيها من يعبث ومن يغالط أو من يكاد يكذب وهو يحلف، ومن يكاد يغش وهو يُوضح أو يستوضح، ومن يكاد يحنث وهو يطلق الوعود، ومن يأتيك بلسان الصدق وهو يروغ كما يروغ الثعلب.

وبالأمس كثر النزاع بين السياسيين وبين الأحزاب، وهذا طبيعي ولكن الذي ليس بالطبيعي ولا بالصحي في السياسة وفي نواميس القيم هو أن يحمل بعضهم الناس على ترك الجدل في مؤسسات الدولة، وكأنه هو وحده الولي الصالح بها، وبالأمس كان يمثل المعارضة وكأشرس ما تكون المعارضة، وكأنه أصيب بداء التنكّر لكل من يُخالفه حتى وهو قد أصبح الناطق الرسمي باسم الحكومة.

فأن يدعو اليوم الناس الى منع الخوض بينهم في المؤسسات السيادية للدولة لهو أمرٌ عجب! لأن الشأن أن يهتم كل مواطن بشؤون دولته في عمومها أو في أدق تفاصيلها ما دام مستقبله مرتهن بمن يسوسها بكفاءة واستقامة وعدل، أو بمن انحرفت به السبيل وأصبح لا يُلقي بالاً إلا الى مصالحه الشخصية وقلةِ الاهتمام إلا ببقاء السلطة بين يديه ليُخفي انحرافه وتعلّقه بها الى حد التضحية بالأرواح والمكاسب لغيره. وهذا قمة الشطط وقمة الخديعة. والسلطة أمانة في رقبة المؤتمنين عليها ينزعها منهم من ائتمنوهم عليها في كل وقت وبدون تردد؛ وإن وقعت الفتنة بهم، لأن الفتنة أشد من القتل، لتعظيم شأن القتل الذي يقع بين الناس بسبب التهاون بالحقوق وكف يد الظالم عن المظلومين.

وليس على من يحكم أن يوصى الناس بالكف عن التعرض للسلطات في الدولة، وأنه على كل واحد أن يتركها وشأنها، ولا مَن يقول بأن من يُحركها أو يتحرّك داخلها وباسمها أنه محق أو أنه على باطل! فأين حق المواطن وأين حق الشعب في التعبير في كل حين وآن، في صحافته وفي أحزابه، وبكل الوسائل المتاحة للتعبير بحرية وللاحتجاج أو لفت النظر والمطالبة بالإصلاح والتغيير قبل فوت الأوان وانفلات العنان، وحدوث اليأس في النفوس وعموم الفوضى وانعدام الأمان، كما رأينا في كثير من حقبات التاريخ يحصل، عند نفاد الصبر واللجوء الى العصيان.

ولم يكْفِه أن يدعو الناس الى عدم الجدل حول المؤسسات حتى يدعوهم الى تصديق قوله إن الاستشارة بشأن التحوير الوزاري، الذي أقبل عليه السيد رئيس الحكومة، الذي لم يعد يصدق أحد أنه ليس في خلاف مع رئيس الدولة، قد تمت على أتم الوجوه، ولا مطعن ولا اعتراض عليه فيما يفعل بحكومته تحويراً أو توسيعاً أو تبديلاً. وأنه ليس أمامه غير عرض وزرائه الجدد على ثقة المجلس حتى يأخذها، ويواصل مهامه على رأس الحكومة وكأنّ شيئاً من الأزمة لم يقع أو كأن شيئاً من الأزمة لا يبقى.

   ولكن كل الناس بتقديرهم أن السلطات ثلاثٌ بالدولة، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وأن مركبات هذه السلطات الثلاث بالإمكان أن تكون ذات مؤسسات متعددة. وإن كان ليس ما يمنع من تنازع الصلاحيات بينها، كما قد يحدث بين ذات السلطات الثلاث في مكونها العام، فإن الحكمة أن تعالج جهة رسمية هذه المنازعات أو تضارب المصالح أو أسباب الخلل بينها؛ وفي غيابها، وهي المحكمة الدستورية، رئيس الجمهورية بصفته الوحيد الساهر على دواليب الدولة وتطبيق الدستور، مخوّل له القيام بدور المحكمة الدستورية. لأنه لا وجه لدولة دون جهة تحكيم عليا، سواء تمثلت في محكمة دستورية متعددة التركيبة أو ممثلة في صورة الفراغ في رئيس الدولة ذاته. وهذا يقول به المنطق والفقه الدستوري ذاته. 

وكان ينبغي أن يكون حاضراً للأذهان أن طلب الثقة من المجلس النيابي ليس عملية حسابية، تُقتنص كيفما تقتنص لسدّ ملامح أزمة بين رأسي السلطة التنفيذية وربما بين طرف فيها وبين البرلمان.

لأن الثقة مسألة اعتبارية هامة، مثلها مثل الولاء بين أعضاء السلطة الواحدة، شيءٌ مقرر بضرورة العقل والاجتماع البشري، فالناس بعض لبعض أولياء، وإلا لما تقرر في الأخلاق استناد الناس الى قاعدة سياسية وثيقة، سواء في الأحزاب أو في الحكومة. فمن أين جاء إذن مبدأ التضامن داخل الحكومة وبين أعضائها لضرورة الانسجام والولاء لرئيسها صاحب الاختيار لهم؟ وينطبق الأمر على العلاقة بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة الذي يستمد ولاءه بالاختيار له من بين الأكفإ، وفي حالة من بين المقدّم في حزبه الفائز بالأغلبية الانتخابية في البرلمان. وإلا لكانت المسألة آلية ولا تمر تحت سمع ولا بصر رئيس الجمهورية.

فقيمة، كقيمة الولاء لها أكبر الاعتبار حتى في الدول الضالعة الى الأعناق في الديمقراطية. ومثلها القيمة الثالثة الاعتبارية وهي القسم. فالقسم ليست عملية شكلية، لا روح لها ولا مسؤولية على من يتولاها أو يتقدم اليها بصفة وزير أو سفير أو قائد أعلى في القوات المسلحة، وغيرهم من مسؤولي الدولة في مهامهم ومناصبهم وسائر شؤون الأمانة التي يؤتمنون عليها طوال ممارستهم وفي سرهم ونجواهم.    

فإذا قيل مشاورات، وإذا قيل إجراءات، وإذا قيل استشارة أو بعد أخذ رأي.. فليس كل هذه الألفاظ يمكن أن يلابسها خبث أو دناءة أو انقلاب ولاء أو شيطنة حسابية للظفر بإحداها للتمكين من السلطة على رغم الولاء والثقة والقسم بمفهومها الرسمي والشعبي المقدس في الرأي العام وفي العادات والتقاليد المرعية في الحكم.  

ويذكرنا الله في الآيتين التاليتين بما هو مِن شأن مَن يتولون الصالح العام في كل زمان ومكان، يقول تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ).

ويقول في الآية الثانية: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) 

تونس في ٩ نوفمبر ٢٠١٨

 

تعليقات