أبناء السياسة وأبناء النسب

أبناء السياسة وأبناء النسب

بقلم الدكتور المنجي الكعبي

تتوسّع دائرة التأثير في الأحداث التي أصبح يمارسها الرئيس باطّراد، بعد القطيعة الشهيرة المعلنة بينه، كرئيس للجمهورية، وبين حزب "النهضة"، ولم تعد تربط علاقته التوافقية معها في المسائل السياسية التي تقوم محلّ تفاهم بينه وبينها تطبيقاً لاتفاق باريس المنتهي بإرادة من رئيسها في أكتوبر الماضي، إثر خلافه معه على استمرار حكومة من هو بمثابة ابنه في السياسة، يوسف الشاهد.

و آخر هذه الأحداث، بعد إثارة القضايا العدلية النائمة طيلة المرحلة السابقة وعلى رأسها الاغتيالات المتهمة قيادات من النهضة بالوقوف وراءها أو تحمّل المسؤولية عنها في مدتها من الحكم المباشر في المرحلة الماضية، قضية العفو الخاص على من كان بمثابة الناطق الرسمي لحزبه "النداء"والمستشار السياسي لابنه المدير التنفيذي له حافظ قايد السبسي، والمقصود به الإعلامي البارز برهان بسيس، المُفرَج عنه أخيراً من السجن بسنتين في قضية تقاضي أموال دون وجه حق من إحدى المؤسسات في عهد المخلوع.

ويدلّ ظهور اسم العجمي الوريمي، أحد أبرز قيادات النهضة في آخر لائحة المشكورين على سعيهم للإفراج عنه، أن الحركة تبادرتْ الى احتواء الموقف إزاء القضايا الأمنية المتهمة بها، المعروضة على عناية الرئيس لعله يشملها بعفوه الخاص لاعتبارات إنسانية مشابهة، أو من منطلق تقديره للمصلحة العامة وحسن سير دواليب الدولة، دعماً للأمن والاستقرار، فحرّكت هذا القيادي القديم والنائب بمجلس نواب الشعب المعروف بحسه السياسي المرهف وتقييسه للأمور بمثقال الذرة الذي يَرَه.. لتكون للحركة اليد على من يدخل السجن ومن يخرج منه. 

والأخذُ بهذا العفو الرئاسي الخاص من صلاحيات الرئيس الدستورية هو أمر غير مناقش فيه خارج الدستور وفي غير مناسبات تعديله.

وكأنما الأحداث تدفع، بعد حسم القطيعة مع "النهضة"، نحو تقديم تنازلات جديدة لتأمين مستقبلها، وتمهّد لتجديد توافقها مع الرئيس عشية الانتخابات القادمة، بعد تجاوز قضية الشاهد بشكل من الأشكال مُرْض للجميع، واستدراج جماعات النواب الغاضبين او المنفلتين من التزامات أحزابهم لتمرير مشاريع القوانين التي تتطلب أغلبية كافية للتصديق عليها.

فأمامها قدْرٌ من التنازلات السياسية والتشريعية، لتمرير المقترحات القانونية المرتقبة، من أجل انتخاب رئيس لهيئة الانتخابات وتسديد الشغور الحاصل بها وتعديل قانونها، وكذلك بشأن مشاريع قوانين تأسيسية أخرى بقيتْ معلّقة منذ ما قبل القطيعة.

حتى إذا وجدتْ الرئاسة أن الظروف قد توفّرت لإعادة الوصل مع حركة النهضة مجدداً بعد التعديل في مواقفها المبدئية يكون حزب "نداء تونس"قد استعاد عافيته وقاعدته الانتخابية لمواجهة المنافسة مع "النهضة" في الانتخابات القادمة، على آفاق الهدنة الاجتماعية بينه وبين سائر الأحزاب، حتى تبقى هذه الحركة في ظل التحديات الداخلية والخارجية كالمحكوم عليها في المعارضة أو كالرديف للحزب الأول، توفيراً لمناخ أفضل للموزانة بين السلطات في الدولة المدنية، لإنعاش المبادرة الاقتصادية وتحقيق الرخاء المنشود في ظل العولمة. 

وكأنّ قليلاً من الميكيافيلية في السياسة لم يعد يُخجل أحداً، وكلّ محترف للسياسية مطلوب منه للنجاح أن يكون كالمعدن الصلب يقطع الزجاج دون أن يَكْسره، ليَسلَم من تهديد القضاء الثوري أو الانتقالي - كما يقال - أو السياسي إذا جاز الخلط، وإنْ كرِه بعض الناس مثل هذا المذهب.

لقد كان المتنبي عندما يمدح كافوراً أو سيف الدولة إنما كان يمدح الأوّل، لا بفضل ما فيه ولكن بفضل ما يَرتجيه فيه من خصال الأمير القائد والفاتح العظيم، وعندما كان يمدح الثاني إنما كان يمدحه بما يَستنْهضه الى ما هو أروع مما حققه من فتوحات وأمجاد للأمة وللإسلام ولدولته في منافسةٍ للملوك والقياصرة وعظماء الفاتحين. وإنما لم يكن يَكذب أو يُنافق وإنما كان يَصْدُق بالمبالغة ويثِق بتأثير الشعر وتخليد الذكر وإشاعة الأفضل والخير. 

وقس على ذلك كبار الإعلاميين في عصور عظماء الملوك والسلاطين، كهيكل في عهد عبد الناصر وبو الأعراس في عهد بورقيبة، ومن استطاع أن يضاهيهم كالقديدي في عهد مزالي وبسيس في عهد الزين، والآن.

وهؤلاء رجالات استثنائيون لم يكن الملوك والرؤساء ليستغنوْا عنهم في حلّهم وترحالهم كالعلماء والوجهاء، كما كان الشأن مع ابن خلدون مع بعض ملوك زمانه، حتى أنه اغْتبطَهم به تيمورلنك الفاتح الكبير لمّا غزا الشرق ووصل دمشق، فأراده ان يكون في حاشيته فاعتذر له  باعتذار رقيق بحاله عند صاحب مصر وأهداه مركوبه، وكان قبل ذلك عند دخوله عليه قدّم له مصفحاً جليلاً اشتراه من سوق دمشق، فقبّله الفاتح واقفاً ورفعه فوق رأسه. 

 ومن هنا جاء إعْتاب الكُتّاب والشعراء والعلماء على وقَعاتهم أو زلاتهم نحو الحكام، حتى ذهَب المثَل بالعالِم يُضرب في الآفاق:« قيل للحكيم: من أحقّ الناس بالرحمة؟ قال: عالمٌ لا يجوز عليه حُكم جاهل!». ولهذا المثَل نظيرُه عند اليونان، فإن سقراط حكمتْ عليه المحكمة التي لم تقرأ سوى نص الدعوى عليه بأنه امتَهَن طبقة الديمقراطية، فكان الحكم بالإعدام، ولكنه قضى بالسم في سجنه انتقاماً لنفسه وتفضيلاً لقيمة الأخلاق على الحياة.

فالرئيس أحرص من كل أحد سواه على تنفيذ الأكثرِ من الممكنِ من وعوده الانتخابية المحسوبة عليه قبل انتهاء رئاسيته الأولى، إن لم يكن دعماً لشعبيته على الأصل في الأشياء، يكنْ تزكية لترشيحه بتوافق بين الأحزاب من جديد لخلافة نفسه تقديراً له ووفاء، لتجنيب البلاد كالأوّل من فتنة التنازع على الحكم بين المتهافتين الكثيرين من رؤساء الأحزاب تحت وطأة التدخلات الأجنبية وفي ظل هشاشة الدولة وبيع الذمة لكثير من المتصيّدين.

تونس في ١٢ ديسمير ٢٠١٨

تعليقات