السترات الصفراء رفض للعولمة باسم المواطنة

الصدريات الصفراء رفضٌ للعولمة باسم المواطنة

بقلم الدكتور المتجي الكعبي

العولمة هي التي حملت على ظهر الشعوب منظمة الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية ومنظمة المناخ، وغيرها من المنظمات التي تبين بمرور الزمن انها لم تخدم سوى الأقوياء والأغنياء وأهملت الضعفاء والفقراء. وبالطبيعة تحركت في الإنسان غريزة البقاء للأصلح. وليس بالضرورة الأصلح هو الاكثر بطشاً وظلماً بماله وسلاحه، فصدور البسطاء وأصحاب المبادئ السامية لا تعدم وجوداً وهم الأكثر عدداً. وفي كل زمان ومكان رجال ونساء يتصدّون للظلم بسواعد مفتولة واستماتة الى حد الشهادة في سبيل نصرة الحق وكرامة الإنسان في الأرض. وسلاح هؤلاء هو الإيمان، ومنه الدين والمعتقدات الصالحة التي تصل الى حد الدين.

والمناهضون لثورات الشعوب، والتحركات الشعبية عموماً، من أجل إصلاح ما فسد واستعادة ما سُلب لا يهمهم من أمر هذه التحركات سوى فهمها من منظورهم الديالكتيكي (الجدلي) الانتهازي الوصولي. هل هي مسبوقة؟ لإمكان محاصرتها وإفشالها، أم جديدة من نوعها؟ للبحث عن الحلول الأنسب للحصول على نفس النتيجة. ولكن هيهات! مجريات الأمور لا تجري دائماً على وتيرة واحدة وإن تشابهت واتّحدت في النتائج.

وذلك سر نجاح الحركات الثورية لبلوغ غايتها.

والاصطدام حاصلٌ لا محالة وإن كلفت ظروفه أقل الخسائر في المكاسب والأرواح. وتلك سنة الحياة. ولذلك يحسن في الأوضاع الدقيقة، مثل هذه التحركات التي أطلقتها حركة الصدريات الصفراء، أن لا تمالئ الحكومة والنظام القائم عموماً في الاستهانة بها لقلة عدد أفرادها أو نوعية فئاتها الاجتماعية البسيطة، أو التعويل على القوة البوليسية وعلى الوقت لوأدها في المهد أو المطاولة بالتسويف لغاية تفريق جمعها أو اطلاق الوعود وبسط الأعذار والتنازلات لتقليص شعبيتها، وفي الوقت نفسه إشْراع القوة الغاشمة في وجهها لقمع عناصرها المتطرفة بعد إرخاء الحبل لها بالعيث في المكتسبات والنهب وربما سقوط الأرواح والجرحى في زحمة الأحداث، لتحميلها أمام الرأي العام وزْر ما جنت على نفسها وعلى المجتمع. 

ولذلك اتخذت هذه الحركة، حركة الصدريات الصفراء استراتيجيات استلهمت خطوطها الكبرى من أساسيات النظام الذي تحركت من أجل مقاومته وإسقاطه لا غير. فذهبت ببساطتها الى الحد الأدنى المقبول جماهيرياً من حقوقها، وهو التحرك باسم المواطنة، الذي يمثل العمود الفقري في الدولة الحديثة وليس الرعية أو المنضوي لتنظيم حزبي أو نقابي أو جمعياتي أيّاً كان. ولذلك تعمم القول على لسان جميع أفرادها أنهم مجرد تحرك مُواطَنِيّ (بفتح الطاء) غير حزبي ولا نقابي، وأنهم لا يمثلون إلا أنفسهم في طلباتهم، ولا أحد منهم يمثلهم من داخلهم أو من خارجهم. وعلّتهم في ذلك أنهم حراك لم يتنظم بعد في هيكلة منتخبة بكل ديمقراطية لتكون له قيادة وممثلون ولا يأتي ذلك بتقديرهم إلا بعد وقت وخصوصاً بعد أن تلبَّى مطالبهم وليس قبل.

وذلك غاية التحدي لنظام لم يَعرف قبلُ ما سوى من هو مطابق للقانون أو مخالف للقانون. وتصنيفُ المواطنة في تحرك حرّ دستوري للتعبير عنها في أمر من الأمور لم يمنعه القانون. ومن هنا حيرة النظم التقليدية التى تبنت المواطنة دون تقييدها بمسؤوليات محددة الا مسؤولية الفعل المباشر الفردي.

ولذلك تَخفّت الحكومة وراء إدانتها للعنف من قبل المندسين في صفوف الصدريات الصفراء خاصة في الفصل الثالث - السبت الماضي - الذي دشنته الحركة في موقع رمزي جداً، وهو محيط قوس النصر بالشانزليزي عند ضريح الجندي المجهول. ورغم تبرئ الحركة من المكسّرين، في صفوفها وغيرهم من الفوضويين والانتهازيين لكن الحكومة أصرّت على ادعائها تحوّل أعضاء من التنظيم يحملون صدريات صفراء لا محالة الى كسّارين وعُنْفيّين كما رصدتهم كاميرات المراقبة وهم في حالة التلبس. كما اتهمتهم كذلك بالمناسبة بتهديد حياة كل من يتصدى منهم لتمثيل حركتهم بالماتنيون أو الإيليزي.

وبمعنى آخر، بتقدير الحكومة أنه تعين مستقبلاً أن يكون التنظيم الذي لم تكد تعترف به في الأول لإخلاله بالمرور في الطرقات السيارة، وهو من حريات أصحاب الطريق، أن يكون سنداً لها لحمايتهم أنفسهم كصدريات صفراء وسائر الجماهير الواقفة الى جانبهم، لتأمين التعبير للجميع بسلمية وانتظام عن احتجاجاتهم. وهذا معناه التعجيز. لأن التنظيم الذي أفنى أربعة أسابيع تقريباً في اقتضاء الحكومة الاستجابة الى طلباته وانتهى أخيراً قبل اليوم الموعود للفصل الرابع من تحركاته المشهودة في قلب باريس، سيكون أكثر تشدداً من الأول، لأنه لم يحصل في نهاية الأمر إلا على تنازلات لفظية من الحكومة، غير متبوعة ولا مسبوقة بقرارات في مستوى الرئاسة التي لم يزل التنظيم يطالب صاحبها بالتنازل اليه لمخاطبته مباشرة، ولم يفعل سوى دفع أعضاء حكومته ونوابه وتحريك القوى العامة التي ببن يديه لمحاصرة المتظاهرين وكسر إرادتهم بطول الوقت والتضييق من شعبية الصدريات الصفراء بكل الوسائل. ومنها إطلاق القرارات التي قد لا تُلزم الحكومة والمؤسسات فيما بعد لإنفاذها، كإلغاء الزيادات في المحروقات وغير ذلك من القرارات الاقتصادية والاجتماعية، التي من شأنها أن تخفف الضغطَ عليه مرحلياً، لاحتواء الغضب العام الذي أصبح مشاركاً فيه هو نفسه تعاطفاً مع أصحاب الصدريات الصفراء وسائر فئات الشعب المتطلعة هي نفسها لهذه القرارات! حتى أنها أي الحكومة وضعت نفسها في موضع المتضرر من غضَبٍ آت من بعيد، بسبب سياسات سابقة وليس بسبب سياساتها الجديدة ذاتِها، التي إنما جاءت بمثابة الإصلاحات الكبرى والضرورية لتأمين الانتقال المناخي العالمي، كعهد فرنسا بالسبق للإصلاحات الكبرى للخروج من ازماتها الداخلية وأزماتها كشريك كبير في الاتحاد الأوروبي.

لكن الصدريات الصفراء على بساطة أصحابها تقف من وراء خطابهم السياسي لا محالة أفكارٌ رائدة، وهو أن القرارات على خطَرها التي تتخذها الحكومة نحوهم لا يمكن أن تكون لها المصداقية الحكومية إذا انبَنتْ على غير منطلقات دستورية أو فاقدة للشرعية الشعبية الديمقراطية. وهذا يستوجب في الحقيقة أن يفهم ماكرون ما لم يفهمه ديغول في الحين، ولكن أذعن له فيما بعد عندما عصفت بجمهوريته الرابعة ثورة الطلاب العارمة في ماي 68 وقذفت بالمؤسسات القائمة نحو التغيير. وقد كنت في باريس بجامعة السوربون وكنت عند التحضيرات الأخيرة لرسالتي للدكتوراه، ولكن التحركات الطلابية آنذاك أنهت من أمامي كل تركيز وانكباب. كيف، وقد توقفت كل المؤسسات التعليمية والنقل وغيرها في إضراب عام، شل كل الحياة الباريسية من حولي. وكانت تجربة فريدة شاركت فيها بكل إحساسي ومشاعري وفكري، ولم أغادر كبيرة أو صغيرة فيما يكتب وينشر أو يقال حتى استوعبته، بل وحفظته في وثائقي التي رجعت بها الى تونس، حتى المنشورات والمعلقات والشعارات، إذ كانت كلها، كالمجلات والجرائد، تغص بها سلاّت المهملات وأكداس القمامة بالشوارع التي كنا نقطعها بالكيلومترات على أرجلنا. ولذلك صُنِّفتُ، عند من تَعرّف على معاصرتي لتلك الثورة، وربما المشاركة فيها باعتباري طالباً أيامها في باريس من أصحاب الشعور الطويلة "الهيبيز" كأصحاب الصدريات الصفراء اليوم. وكان من أبرز زعماء الحركة الطلابية الذين أصبح لهم شأن فيما بعد،جاكسوفاجيوكون بنديت وألان كريفين. وهذا الأخير ترشح للرئاسيات عن أقصى اليسار في وقت لاحق، أما كون بنديت، وكان من أشهر الخطباء، فقد مثّل الخضر في البرلمان الأوروبي لعدة دورات. وشاءت الظروف أن تسوق بي الأقدار للترشح عندما عدت الى تونس بعد بضع سنوات لمجلس الأمة، وأترشح بعد الثورة للتأسيسي بصفة مستقل دون نتيجة ثم للرئاسيات لولا أنني عدلت عن تقديم الملف بسبب شروط التزكية غير الديمقراطية والتي شابتها التلاعبات المالية والحزبية التي نعاني من آثارها الى اليوم وتنذر بالتداعيات.

وكل الحكومات لها منطق خاص بها واضطرارات لا محيد عنها، وهي أعلم بها ولكنها غير معذورة بأخطائها عندما تتبيّنُها للوقت وتعالجها، وإلاّ بذلك يكون سببُ سقوطها، وهو حتميةٌ أخرى لها موجباتها أحياناً عندما تخرج من الباب الواسع وليس من الباب الضيق.

فقد كان أمام الحكومة التروي في ثلاثة أمور، لم يكن للصدريات الصفراء أن تناقش في مشروعيتها إن لم يكن في شرعيتها، ولها عليهم كحكومة اليد العليا إن خالفوها ولا مَعذَرَ لهم إن رفضوا الالتزام بها.

أولاً، تحديد من يرتدي الصدرية الصفراء بأصحاب المهنة بالقانون، ولا يُخَلّوا لمن عداهم بحملها أو ارتدائها. إذ هي بموجب القانون مخصوصة بالوصف واللون بسائقي السيارات الثقيلة عند وقوفهم الاضطراري وخروجهم منها الى حاشية الطريق. واستغلالها لغير هذه الغاية هو في حد ذاته مخالفة.

ثانياً: أن تضع الحكومة جزءاً من قوات الأمن على ذمة هذا الرهط من المحتجين، بحيث تتقدّمهم وتتأخّرهم لحفظ صفوفهم من كل دخيل، طالما عبروا عن كونهم ليسوا بالتنظيم الذي له قيادات وممثلين وميليشات تدافع عنهم بوجه المندسين والفوضويين والانتهازيين وأصحاب الأغراض الحزبية والنقابية والجمعوية.

ثالثا: أن تكفّ الحكومة عن التعجب من كونهم غير منضبطين لقيادة وغير مخوِّلين لأحد منهم بتمثيلهم لديها، طالما لا يعترفون لها بكونها، من ناحية أخرى، هي طرفٌ مفاوض جديرٌ بالمصداقية والثقة، بناء على كونها غضّت الطرْف من الأول عن الاستماع إليهم ومحاورتهم مباشرة عن طريق أبرز رؤوس السلطة إن لم يكن بدءاً برئيس الجمهورية بدرجة أولى. فهناك أكثر من طريقة لفهم ما يريدون. وأبسط ما يريدون هو حلول لا حوار في الواقع، لأنهم كلهم على لسان رجل واحد ملّوا موائد الحوار والوعود، وطلّقوا هذه الطريقة الى الأبد، لأنهم كما يقولون وصلوا الى حالة اليأس، ولم يعد في وارد الحوار إلا تلبية مطالبهم أولاً، ثم التحول لتجسيمها لاحقاً بعْد أن تكون قد تهيأت لحركتهم ظروف التهيكل والانتخاب والتقرير، ووجدوا المكافئ للحوار في الطرف المقابل ديمقراطياً وشعبياً ودستورياً.

وربما أخيراً، تُوقِف الحكومة عن محاولة التخويف والتهديد لهم، بعدم الرجوع لمربع المنع بالتظاهر في الساحات التي يريدونها لرمزيتها بالذات، ولأنها الأكثر ظهوراً لهم تحت عين وسمع العالم. وهذا من حقهم باسم المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات التي شرعتها دولتُهم في دستورها ولوائحها القانونية. وهذا من حقهم من جهة أخرى حتى يُشهد لفرنسا كالماضي قيادة التحولات الكبرى بمستوى التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والفكري. وليس فقط لحكومة فاقدة لأغلب الشرعية الشعبية المطلقة من قيود الديمقراطية النسبية والتحالُفيّة على ظهور ملايين الناخبين أو في سن الانتخاب، التي زَوّرت هذه الانتخابات المقررة بمقاس رجال المال والأعمال للتحكم في الثروات وفي الفقر والغنى، على قدْر أطماعهم في الربح والاستغلال والتهرب من الضرائب.

فإذا أقرّت هذه الحكومة بهذه التنازلات المتأخرة لتلبية مطالب الصدريات الصفراء كالمُعذرة (بضم الميم) قبل المُنذرة (بضم الميم كذلك)، فكان عليها أن تعلن ترْك المجال لقيام جمهورية سادسة تؤسس لها هذه الصدريات الصفراء أو من تنتخبه لمهماتها بدون تضييع وقت في ممارسة الضغط واستعمال القوة الرادعة، أو القذف بالمجتمع في فتنة كبرى قد يستوحي المحتجون أبعادها من اقتحام أسلافهم الباستيل واحتلال فرساي قبل قرنين. 

 لقد مثلت السترات الصفراء، حسب التعبير الجاري أكثر على الألسن هنا، أو الصدريات الصفراء حسب مسماها اللغوي الصحيح وترجمته الصحيحة تفريجاً لكبت كبير أحس به الناس جميعاً في فرنسا وربما في خارج فرنسا أكثر، عندما رأوا شاباً يتصعّد في السلطة جرياً دون سلالم، ورغم ذكائه الوقاد وشخصيته الكارزمية وقوة خطابته وملامحه النابليونية ولكنه كان أجدر بثورة أصحاب الصدريات الصفراء ليتصعّد لا لبنوك الأموال والأعمال الأجنبية التي لم تخلّف للشعوب إلا السحت.

فهل يكون أصابته الأحزاب والنقابات بلعنتها عندما لم ترفعه الى مسؤولياته العليا على رأس الدولة الفرنسية أم أصابته الصدريات الصفراء التي أوجست من ارْتهانه لرأس المال الأجنبي، للقيام بإصلاحات بمستوى تغيير المناخ تأكُل من خبز العامل وكساء العامل ودفء الضعيف والفقير والعجوز. وقد لا تأتي على طول المدى إلا بالبؤس لأوسع شريحة من المواطنين الذين أَحْبطت من آمالهم وأعمالهم العولمة المتوحشة، التي طَرقت أبوابهم حتى سدّت عليهم من أنفاسهم المنافذ لتنفّس الهواء الطلق بحرية وكرامة.

إن الثورات بقدر ما تتقادم في التاريخ تتسامي في التقدير.

تونس في ٧ ديسمبر ٢٠١٨

تعليقات