تكريما لصاحب هذه الجثة لي

تكريما للشاعر المبدع صاحب ـ هذه الجثة لي ـ
بقلم : الناصر التومي

   أعيد نشر مقالة بمناسبة إصدار كتاب حوله بعنوان ـ تجربة عبد الله مالك القاسمي الشعرية تأليف مجموعة من الكتاب.

   تجمعني والشاعر عبد الله مالك القاسمي أكثر من حلقة من حلقات الحياة، حلقة الزمالة المهنية، وحلقة الشغف بالأدب، كان هو شاعرا بينما اتجهت إلى الكتابة القصصية، إضافة أنه دأب على حرفية الكتابة الصحفية طيلة أكثر من عشرين سنة، بينما كانت لي الصحافة هواية لا غير.

خلال السبعينات قمت بزيارة أحدهم بأحد مراكز الأمن، ودخل علينا فجأة أحد المنتمين إلى السلك وقدم لي نفسه بأنه شاعر، وإثر حوار قصير تعرفنا على بعضنا، ووقفت على حقيقة أن همّ الرجل هو الإبداع، وصاحب شغف كبير للإطلاع على أهم الثقافات العربية منها والغربية، والظروف الحياتية هي التي دفعته للانتساب إلى هذا السلك الذي لا يتماشى وتطلعاته، مثلما هو الحال معي. وبقينا باتصال من يومها، جمعتنا عديد الجلسات التي لا تحصى، وكان يتألم لما يتعرض له من مضايقات المسؤولين الأمنيين كلما كتب شيئا، قصيدا كان أو نثرا يؤولونه حسب أهوائهم وأمراضهم، وحسدهم، فيحررون فيه التقارير السرية، و المحاضر، وتحذيرا من مغبة العودة إلى المواضيع الحساسة التي قد توحي أو تلمح لعيوب في النظام السياسي القائم، أو لبعض الساسة أو أذنابهم وخاصة أن القانون الخاص لقوات الأمن الداخلي يمنعه من الخوض في المجال السياسي.
  مسيرته الشعرية شهدت له بنجاحها الساحة الثقافية، مع استثناءات طبعا من بعض من في قلوبهم مرض وحسد لكل عصامي يزاحم الجامعيين والمنتسبين إلى سلك التعليم في حقل الإبداع، سواء كان شعرا أو قصة، ولعل عبد الله مالك القاسمي له عنصر آخر غير العصامية لا تعمل لصالحه، وهو أنه ينتسب إلى سلك الأمن، حيث يرى بعضهم أن الثقافة ليست مجاله من جهة، ومن جهة أخرى أنه ربما يكون مدسوسا على الساحة الثقافية، وهم يجمعون كل رجال الأمن الناشطين بالساحة الثقافية في سلة واحدة، واتهامهم بالعمالة للنظام، وخاصة بعد أن اكتووا والحق يقال بلدغ بعضهم، ممن خانوا هذه الساحة، ووظفوها في أعمالهم لغايات مهنية صرفة.

  في عهد وزير الثقافة البشير بن سلامة، استطاع عبد الله مالك القاسمي  الهروب (بجثته ) من سعير العمل الأمني، إلى حيث مجاله الثقافي الذي يستهويه، فشخصيته الرقيقة الطيبة المرحة الحالمة بكل ما هو جميل وساحر، وجدت في المكان الخطأ، وما إن وجد الفرصة للهروب حتى استغلها، وبهذا الإلحاق بوزارة الثقافة نجا بشخصيته من أن تصاب بطمس مناخ يتنافى وطبيعتها إلى حين، فألحق بمساعدة محمد العروسي المطوي بمنظمة اتحاد الكتاب التونسيين، فكانت له أسعد السنوات حيث زاول نشاطه الثقافي بكل أريحية، لكن بتولي الميداني بن صالح رئاسة الاتحاد رأى فيه رأيا غير بريء، فنقل إلى المندوبية الثقافية بأريانة.

وأبت الأقدار إلا أن تمتحنه في أحب الناس إليه، ابنته وهي تتعرض لإصابة بمرض القلب وهي لا تزال تلميذة، فطالبة، إلى أن افتقدها، فكانت له معاناة طويلة فصدمة أثرت في وضعه الصحي، و كيانه، وإبداعه الشعري، لكنه لم ينكسر وقاوم علته، بطرافته، وروحه المرحة، لكن كنا نستشعر من بين ثنايا حواراته عن فقيدته، ومعاناته هو أيضا بمرض القلب أنه يعاني كبتا في التعبير عما يخفيه داخله من تأزم، سرعان ما يحاول إزالته بإحدى طرفه التي لا يحسن سبكها وحياكاتها إلا هو.

ولم تطل سنوات الإلحاق بوزارة الثقافة أكثر من عقدين، أحس أنه وإن ابتعد عن جحيم العمل الأمني، فإنه سيخسر التدرج في الرتبة، فالملحقون دوما يتناسون في إطارهم الأصلي، فلا يحسب لهم حساب في الترقيات والخطط الوظيفية، والوزارات المستقبلة ليس لها الحيلة في ذلك، كما إنها لا تطالب الوزارة صاحبة الإطار الأصلي بهذا الشأن، وبعد إعمال الرأي فضل العودة إلى جهاز الأمن لعله يسعف بالحصول على حقوقه المهنية، حيث اصطدم مع بعض المسؤولين الذين لا يرون في رجل الأمن إلا تنفيذ الأوامر والتعليمات، وليس من حقه أن تكون اهتماماته أدبية، ـ وكأنك يا بوزيد ما غزيت ـ فطيلة العشرين سنة التي قضاها بعيدا عن السلك كان يكتب بكل حرية ولعله نسي، فلم تقع مساءلته فيما يكتب، لكن بعودته أصبحت كتاباته تقرأ بكل عناية، وتحلل، وتؤول، حسب الأهواء، فيسأل عن ذلك كتابيا، ولم ينجو إلا بعد أن عمل مع أحد المسؤولين الكبار الذي اشتهر بالطيبة، وتشجيع أصحاب المواهب، فكان له منجاة من عصابة أمنية ساهمت في اضطهاد الشعب بالكذب والافتراء والتأويل السيئ لغايات خسيسة، أولها الحسد، وثانيها التقرب إلى رؤسائهم على حساب حتى الأبرياء، من الزملاء وكافة أفراد الشعب.

  تعب عبد الله مالك القاسمي في الحصول على تزكية من الساحة الثقافية لشخصيته، فكان عليه أن يحفر في الصخر، لإبراز مؤهلاته الشعرية التي فتحت له طريق القبول، وكان عليه أيضا أن يزيل من عقليات بعض المتشككين النظرة الدونية للعصامي، ورجل الأمن، وساعدته شخصيته المرحة، وطرافته لكسر الحاجز الوهمي، مما جعله قبلة عديد المثقفين لمجالسته والتقرب منه، وتشريكه في الأمسيات الشعرية، ويكون منطلق حوار بناء في شعره وشخصه حتى في غيابه.

  كان شديد الثقة بنفسه، لا يجامل، ويصدع برأيه دون تجريح، لما له من ثقافة واسعة، وإتقانه للغة الفرنسية التي تعوز أغلب العصاميين، وساعدته على الإطلاع على عديد النصوص الفرنسية بلغاتها الأصلية، وكذلك الدراسات القيمة التي لم تترجم، والساحة الثقافية لا تزال تتذكر موقفه من الموسوعة التي كانت تعد ببيت الحكمة والتي أقصت عديد الأسماء من شعراء وقصاصين بدعوى عدم النضج، والتي أفردها عبد الله مالك القاسمي بمقالات مطولة بجريدة الأخبار سفه فيها وجهة نظر معدي الموسوعة، وكان أهم من اعترض على اختياراتهم، إلى أن تم تجميدها ولم تبرز إلى حد هذا التاريخ.

  طوال أكثر من ثلاثة عقود وشاعرنا يصارع المرض، وتحمل قلبه العليل أكثر مما يحتمل، وخاصة لما فقد ابنته، ورغم هذا لم ينهزم معنويا، وحافظ على نشاطه الثقافي كشاعر، وكمشرف على صفحة ثقافية، إضافة لالتزامه المهني لإعالة عائلته، لكن الأقدار قد قالت كلمتها منذ الأزل بأن المرء مهما عاش فله أجل مسمى معدود لا يمكن تخطيه، فصعدت روحه إلى بارئها تاركة لنا الجثة لنواريها التراب، ونشهد لها بأنها كانت لحبيبنا الشاعر عبد الله مالك القاسمي، ذلك الذي شغل الساحة الثقافية بشعره، ودماثة خلقه، وروحه المرحة أكثر من أربعة قرون.

نشرت هذه المقالة بجريدة الوقائع بمناسبة مرور سنة على وفاة الشاعر .

تعليقات