ظاهرة الاقلال في الأدب : دليل عقم أم هوس فني؟

ظاهرة الاقلال في الأدب : دليل عقم أم هوس فني ؟

بقلم : محمد المي

اقترح علي استاذي محمد الصالح بن عمر التفكير في هذا الموضوع فوافقته فورا دون تردد وحين أقبلت عليه وجدتني كمن يريد أن يحمل البحر في كفيه ذلك أن ظاهرة الاقلال في الأدب العربي قديمة قدم ظهور الأدب إذ هناك من شعراء العربية من اكتفى بكتابة بيت واحد أو عرف في تاريخ الأدب ببيت يتيم وقد تصدى المرحوم الطيب العشاش لهذه الظاهرة فكفانا التوقف عندها لنمر عليها مرور الكرام ونتحدث عن هذه الظاهرة في ادبنا التونسي المعاصر .

ولا يفوتنا في هذا السياق مادام الشئ بالشئ يذكر فإن من أول من أشار إلى الموضوع الذي نتناول (ظاهرة الاقلال في الأدب التونسي ) هو استاذنا ابو القاسم محمد كرو رحمه الله عندما كتب مقالا عنوانه : "أدينا بين الانكماش والانطلاق " نشر  في جريدة العمل بتاريخ 29 أكتوبر 1965 كل ماقاله :

أن معظم انتاجنا ينشر في الجرائد والمجلات التونسية وهذه لاتوزع في البلاد العربية إلا بشكل هدايا على قراء أكثرهم لا يستفيد شيئا منها ، أما كتبنا القليلة فهي مثل الدوريات من حيث توزيعها الخارجي فإذا أضفنا إلى هذا انكماش الأدباء التونسيين وعدم إقبالهم على نشر إنتاجهم  في المجلات الأدبية العربية الواسعة الانتشار ...وعدم إقبال ادبائنا أيضا على نشر مؤلفاتهم في نطاق أوسع من الواقع الذي يعيشونه

فاتهم بالتمشرق ونال من الاتهامات مانال  فكتب  الشاعر جعفر ماجد ردا مطولا في عدد العمل بتاريخ  12نوفمبر 1965 مقالا عنوانه : أدبنا والتمشرق وصل به الامر الى التشكيك في انتماء الاستاذ كرو الى تونس حيث قال :
قرأت منذ أيام مقالا كتبه أحد الكتاب على هذه الصفحة عنوانه : ( أدبنا بين الانطلاق والانكماش ) فما شككت بادئ  في أن هذه النون من ( ادبنا ) تونسية ...الخ

أما الرسام على عبيد رسمه في حلة من يلبس اللباس الخليجي ويلقي بالأدب التونسي في سلة المهملات.

وهي معركة فصلنا فيها القول في كتابنا الذي تعده للنشر تحت عنوان : سنوات صحبة الأستاذ فقط نشير إليها في هذا السياق لنذكر بأن هذا الموضوع لم يطرح لأول مرة  علما وان الجريدة نفسها عقدت ندوة في جويلية 1966 شارك فيها كل من محمد العروسي المطوي والمنجي الشملي وعبد القادر المهيري والحبيب الجنحاني تحت عنوان : الإنتاج الفكري في تونس أزمة ام جدب؟

هذا الوعي التاريخي يوجبني الحذر وانا اتطرق إلى مسألة كهذه ليست بالهينة إذ نحن لم نتعود على النقد الذاتي ولا نرى اخطاءنا نقائص بل نسعى إلى تبريرها وتعليلها كعنوان هذه المداخلة "دليل عقم أم هوس فني " ؟

ولئن كانت أغلب المداخلات ستنطلق من نماذج عينية فإني سأحاول أن أجمل القول فيما سيكون مفصلا. فنحن نتحدث عن ظاهرة وتعريف الظاهرة   هو كما يلي ذكره :

الظاهرة (بالإنجليزية: Phenomenon) هي لفظ يطلق على أي حدث يمكن مراقبته. و في الاستخدام العام، الظاهرة كثيراً ما تشير إلى حدث غير عادي. في الاستخدام العلمي، الظاهرة هي أي حدث يمكن ملاحظته و مراقبته و رصده، و قد تتطلب الملاحظة العلمية و مراقبة الظاهر استخدام أجهزة معينة للمراقبة وتسجيل أو تجميع البيانات المتعلقة بهذه الظاهرة. على سبيل المثال ، في الفيزياء قد تكون الظاهرة سمة معينة للمادة والطاقة، أو الزمكان كما كانت مراقبة العالم إسحاق نيوتن لمدار القمر و الجاذبية ، أو رصد العالم  غاليلي لحركة البندول.(ويكيبيديا )

نستفيد من هذا التعريف أن ظاهرة الاقلال هي حدث غير عادي الشيء الذي يجعله لافتا للانتباه ودافعا للبحث والتأمل والنظر لأن الأصل في الأشياء يقتضي أن يكون المبدع وافر الإنتاج غزير الكتابة مادام ذاتا متفاعلة مع ملابسات العصر أخذا وعطاء وقبولا ورفضا.

فعامة الناس يتطلعون إلى معرفة موقف الكاتب أو الشاعر مما يحدث ومما يجري وتجدهم يستنجدون بالفكرة  أو الرأي ويحتجون بها الشيء الذي يلزم الكاتب أن يكون جاهزا للإدلاء بأرائه وحاضرا بمواقفه ولا يكون الكاتب كاتبا في نظر العامة إلا بمؤلفاته ومن لا مؤلفات له لا يعد كاتبا . ولم نتحدث عن العامة؟  ماذا يمكن أن يذكر التاريخ عن أديب لم يؤلف كتابا؟  فحتى الذين يتكؤون على مقولتي " الحولي والمحكك "

قال الجاحظ في البيان: كان الشاعر من العرب يمكث في القصيدة الحول، ويسمون تلك القصائد الحوليات والمنقحات والمحكمات، يصير قائلها فحلا خنذيذًا وشاعرًا مفلقًا"  فالقصيدة الحولية المنقحة المحكمة، هي القصيدة التي يتأنى بها صاحبها، فيهذب فيها ويشذب، حتى يحكمها، لتصير متماسكة بينه متينة، ومن هنا قال الحطئية: خير الشعر الحولي المنقح"،
لعل مثل هذه العكاكيز التي نتكئ عليها جعلتنا نبرر قلة انتاجنا ونعتبر المنتج مهذارا وتافها ونعدم قيمة ما يكتب ونحقر أغلب ما يطبع وينشر. ألم ينظر إلى الدكتور محمد فريد غازي نظرة دونية؟ بل هناك من يشكك في صحة ما كتب وهناك من قال إنه كان يسطو على إنتاج غيره وينسبه إليه. ؟
أولم نمجد زبيدة بشير والحال انها لم تطبع سوى مجموعة شعرية واحدة إلى حدود سنة 2000 ؟ وأطلقوا اسمها على جائزة الكريديف وأقيمت الندوات والملتقيات باسمها؟ والحال أن عديد الكاتبات قد انتجن أكثر مما أنتجت وكان الأجدر بنا الافتخار بالأكثر انتاجا ؟

وكم سخرنا من إخواننا المشارقة لكثرة إنتاجهم وكأن ما أنتجه طه حسين أو العقاد أو احمد امين أو نجيب محفوظ أو توفيق الحكيم غير جدير بالقراءة والمطالعة؟  لقد سئل نجيب محفوظ عن سر غزارة إنتاجه فقال : إني أشعر بالتقصير إذ يوجد في السنة 365 يوما ولو كتبت في اليوم صفحة واحدة لأنهيت عامي بكتاب يمتد على 365 صفحة والحال أن أطول كتبي لا يتجاوز ال200 صفحة وبذلك فإني أشعر بالتقصير.

لقد كتب عميد الأدب العربي طه حسين البحث العلمي والدراسة النقدية والرواية والقصة والشعر والمقالة الصحفية واعتبر ذلك علامة ثراء وتنوع فالكاتب لا يكون كاتبا في تقديري الشخصي إلا إذا كان غزير الإنتاج ولنا نماذج نفخر بها وأبرز مثال على ذلك ما خلفه محمد الطاهر أين عاشور أو الطاهر الحداد أو الشابي أو الدوعاجي أو البشير خريف أو حسن حسني عبد الوهاب أو عثمان الكعاك. لذلك فإنه حري بنا أن نعتبر من اكتفى بإنتاج كتاب واحد حالة شاذة والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه ولا نتخذه نموذجا أو قدوة ولا نسعى إلى تبرير عدم الإنتاج والتأليف والنشر.  إذ يمكن أن نلتمس لهؤلاء بعض الأعذار الاجتماعية والمادية والنفسية ونتفهم الظروف التي مرت بهم أو مروا بها دون اعتبار ماقدموا علامة نبوغ أو هوس فني فنكرس داء القلة وثقافة الاقلال التي لا تقدم للأدب وللثقافة سوى نماذج فاشلة أصابها العقم فاكتفت ببيضة الديك.

واني أجزم انه لو امتد العمر بمختار اللغماني لما توقف عند "أقسمت على انتصار الشمس " أو لو سمحت الظروف المادية لرضا الجلالي لما اكتفى بمجموعة يتيمة  عنوانها " خطايا لم يرتكبها احد " صدرت في ظروف غامضة لدى ناشر لم يحترم القواعد الدنيا للنشر والدليل على صحة ما أزعم أن هناك قصائد لم تنشر لرضا الجلالي ...الخ .

لقد كان التعلل بوجود صعوبات في النشر مقبولا قبل الاستقلال وقد طالعنا ماكتبه الشابي لصديقه الحليوي حول نشره لديوان اغاني الحياة وما لاقى جراء ذلك حتى توفي وفي نفسه حسرة وفي قلبه لوعة فلم ينشر ديوانه إلا بعيد الاستقلال أما ونحن في ظروف كالتي نعيش فلم يعد هناك أي مبرر لعدم نشر الكتاب ابداعهم  سوى عدم وجود إنتاج قابل للنشر.

لننصت إلى الشابي كيف كان يحرض الحليوي على النشر والكتابة في مجلة أبوللو:

"لا زلت انتظر رسالتك  في شأن أبوللو أننا نريد أن نرفع رأس تونس بما لنا من حول وقوة وفكر ثابت العزم قوي على الأيام .
ما هذا أيها الصديق أن تونس لفي حاجة إلى أبنائها الذين تتدفق في دمائهم عزمات الفتوة ونخوة الشباب ونشوة الأحلام ..إن تونس لفي حاجة إلى أن ترفع رأسها عاليا حتى تشاهد أنوار السماء وشموسه وحتى تقبل شفتيها أضواء النجوم ...ولئن كانت تونس فقيرة إلى هذا الضرب من أبنائها،  هذا الضرب الذي يمكن أن يعيش عيشة كلها حق ولذة وجمال وكلها إحساس وشعور وعواطف  أقول أن كانت تونس فقيرة إلى هذا النوع من أبنائها ليجب على هذا النهر القليل منهم أن يبذلوا كل ما في جهدهم من عزم وقوة وحمية وشباب حتى يستطيعوا أن يكونوا نشئا حيا مخلصا شاعرا بواجبه لأمته وللحياة وللوجود بأسره وأن يخلقوا في ذلك الوسط الحي الجميل الذي نتصوره في أحلامنا ثم نلتفت حوالينا فلا نلمح له أثرا وأذن فلتكتب ولتعمل ولتطرد عنك خواطر الراحة والسكون فأن شعبك في حاجة إليك وليس لك شيء من العذر في أن تسكن ولا تعمل "

هذا صوت الشابي في الثلث الأول من القرن العشرين فهل نردد قوله في القرن الحادي والعشرين أم ندعو إلى الكسل والخمول ونحسب العجز ابداعا؟ وعوض القول بالعقم الإبداعي  نتحدث عن الهوس الفني ؟

يمكن أن نلتمس للكاتب ظروفا اجتماعية أو نفسية فنبرر بها عدم النشر ولكن ان يحجم الكاتب اويتعلل بعدم الرغبة أو التعفف فإن ذلك يدل على جفاف القريحة ونضوب معين الإبداع والعجز عن الاضافة. إذ يجب على الكاتب أن يؤكد قدرته على الخلق والإبداع فيثني ويثلث ويربع ويخمس. ..وهلمجرا إلى أن يتوقف العمر بصاحبه فإذا بحثنا فيما تركه نجد أنه خلف خيرا كثيرا .

وبما أننا نتحدث عن الإبداع مطلقا فإني سأروي حادثة جدت منذ سنوات في دار الفنون بالبلفدير حيث أقيم للفنان التشكيلي الراحل فوزي الشتيوي معرضا استيعاديا ضم حوالي 150 عملا فنيا له حيث امتلأت دار الفنون بلوحاته وقد انبهرت بذلك الكم الهائل من اللوحات والخزفيات والمنسوجات وقيل انه تم عرض كل ما أنتجه فوزي الشتيوي فسألت الفنان التشكيلي الكبير لمين ساسي عن رأيه في انتاج صديقه الراحل فقال لي للأسف لم يهب نفسه للفن تماما ف150 عملا فنيا لا تعني شيئا في مسيرة فنان ولا تصنع منه فنانا كبيرا. .فالحبيب بوعبانة تجاوز إنتاجه إل5000 لوحة فنية وإذا أردنا أن نسقط منها أربعة آلاف لوحة لضعفها أو عدم جودتها فإنه يبقى من بوعبانة الكثير رغم ذلك !

.الشيء نفسه يمكن أن نقوله عن مختار اللغماني أو رضا الجلالي أو عزوز الجملي أو سكاليزي أو الشابي كم قصيدة يمكن أن تبقى من الديوان اليتيم الذي نشر لهم؟  الكم حينها يصبح مطلوبا لذاته والتراكم ضرورة نميز بها الكاتب عن سواه .

علينا أن نحتذي النماذج الناجحة ونقتدي بالمقتدر والفاعل والايجابي أما العاجز فيحفظ ولا يقاس عليه.
لا يمكن أن يكون الخامل حجة على الفاعل .
ول يمكن أن يكون العاجز حجة على القادر .
ولا يمكن أن يكون من لا يكتب حجة على من يكتب .
ولا يمكن أن يكون من لا ينشر حجة على من لا ينشر .

طبيعة الأشياء تقتضي أن  ينشر الكاتب ما يكتب ويظهره للناس ويفصح عن مكنونه ويفرج عن كتاباته لترى النور وتصل إلى القارئ الذي كتبت من أجله  وأي ذريعة هي نقيصة وأي تعلل هو عجز فالنشر متاح وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وليجتهد المجتهدون وسيرى التاريخ أعمالكم ومؤرخوه وعموم خلق الله .
نص محاضرتي التي قدمتها في جمعية قدماء الصادقية في ندوة " المبدعون الراحلون الذين تميزوا بكتاب واحد في تونس " تنظيم دار إشراق أشراف الدكتور محمد الصالح بن عمر

تعليقات