ابراهيم الأسود بين الإبداع والقلق الوجودي

القـاص إبــراهــيــم الأســود
                              بـيـن الإبـداع والـقـلـق الـوجـودي

كان لا بد لي من إعادة الاطلاع على المجموعة القصصية لإبراهيم الأسود ـ أحلام بحار متعب ـ حتى أدخل عالمه الإبداعي الذي بقي بعد قراءة المجموعة منذ عشرين سنة تقريبا، حاملا لهم كبير، ينخر عالم الكاتب من قريب ومن بعيد، يؤرقه، ويحول مسار حياته، همّ فكري وجودي بالأساس، انعكس على إبداعه، وكذلك على نظرته للعالم.
اكتشفت عالم إبراهيم الإبداعي من جديد، تحققت أن ترسّبات ما بقي من الذاكرة من هذه النصوص هزيل للغاية، ولا يفي لتكوين فكرة متكاملة تحدد مراميه. المجموعة كتبت على مدى عشرين سنة تقريبا، من سنة 1967 كأول إنتاج منشور، إلى سنة 1988 آخر قصة، وبعدها صدرت المجموعة مباشرة. فعلى صغر حجمها، وعدم نشر الكاتب أي نص آخر بعدها في أي نشرية، نستشف أن الكاتب لم يكن مدفوعا فقط إلى الكتابة من أجل الكتابة، وإنما من أجل ترجمة الصراعات الفكرية التي تخامره، وإبرازها، فهي تؤرقه إلى حد التمرد عليه حتى ترى النور، فالحالات التي رصدها الكاتب إن أحسنا التعبير ضمن هذه النصوص، هي ترجمة لأحاسيسه وقناعاته وقلقه المتواصل.
مضامين النصوص مغرقة في السوداوية، شخوصها محبطون، مقمعون من كل جانب، ولعل عناوين بعضها كانت الإشارة الأولى لتأزمها، الزورق الضائع، ريح الشمال، أحزان صغيرة، أحلام بحار متعب، أحزان ليلة سهاد، بينما بقية العناوين فما كانت تنبئ بانفراج، وشاركت بقية النصوص في مناخها القاتم.
الشخوص مأزومون، قلقون، مرتبكون، إحساسهم بالضيم كبير، ولعل تحليلهم للأوضاع غير متناغم مع الواقع المعيش، لذلك فإن قاموس الكاتب اللغوي  في أغلبه يصور جل حالات الشخوص المغرقة في السوداوية، الليل، الضياع، التعب، الظلام، السهاد، الصمت، الريح، المطر، الجليد، الشارع المقفر، الكسيح، الأرملة الخربة، الزمن اللئيم، هذا ويمتد هذا المناخ القاتم إلى الصور المتعددة التي لا توحي إلا بالوحشة والخواء والفراغ، لا شي يبعث على الأمل إلا فيما ندر.
الأمكنة التي تدور فيها حركة الشخوص، غرف مظلمة كئيبة، شوارع مقفرة، حانات بائسة.
أغلب النصوص شخوصها رجال، وجلها تصور حالة متأزمة لفرد واحد ألا وهو الراوي، والتي صيغت جلها بضمير المتكلم أنا، وهي سمة تتماشى وهذه النوعية من الكتابة الاعتراف، فمن خلالها يستطيع الكاتب الإفضاء بما يختلج في صدره من تأزم  بكل يسر، فينزلق في ذكر خصوصياته التي عرفها الناس عنه، وحتى تلك الكامنة بين ضلوعه،  لأنها تؤثث لحالته النفسية، وتثري  من جانب آخر نظرته للحياة وللنص الذي يبتغي عرضه على الناس، وهو إن يزيح أغلب الشخوص الثانوية، وكأنما يعمل على إدانة الآخر، مجتمعه الذي تركه في ضياعه دون أن يحتضنه، وينتشله من التيه. فحتى في قصتيه رجل الخمّارة الصاخب، و أحلام بحار متعب، وقد أوهمنا في البداية ببراعة أنه يخاطب في الأولى شخصا سكيرا، وفي الثانية غانية، فنفاجأ بأنه لا يكلم في النصين إلا نفسه، لكنه في الحالتين كان على يقين أنه التقى بهما. وقد يلوح من خلال هذه النصوص أن الشخصية التي تتكرر في جل النصوص تقريبا،  هو كائن غريب في مجتمعه، يحوّل كل ما يحيط به إلى قتامة، وخواء، وضياع، ولعله الكائن الوحيد الذي يعيش هذا التأزم داخل مجتمع غير مكترث، بل هو غارق في قناعات مخالفة، مناقضة لنظرته المحبطة.
ولو أمعنا النظر في المناخ العام للنصوص المتسم بالسوداوية  والنظرة المنكرة لكل ما يدور والمنتقدة لها، قد نجد عذرا لكل ذلك، فالشخوص يواجهون بالتغاضي والإهمال من محيطهم الاجتماعي، ولا منقذ، فهي تتحرك داخل تلك الأطر المربكة، والمسرفة في التقوقع،  والتي لا تبعث إلا على الانطواء، ومن جهة أخرى  فإن هذه الشخصية لا ترى العالم إلا من زاوية واحدة، فترى في الوجود عبثا لا طائل من ورائه، ففي قصة ـ رجل الخمّارة الصاخب ـ:
(العالم يعبرني كحلم... يفصلني على العالم جدار زجاجي غائم، تتلاحق من خلاله مشاهد شارع مكتظ.. العالم يتحرك بتلقائية سرمدية قوامها العبث.. أتابع في ذهول حركته اللولبية، وأنا مكتوم في استرخاء بخمارة عتيقة قذرة، تطل على شارع مكتظ)
فالصيغة المتوخاة في هذه الفقرة،  تنبئ الجزم بما يؤمن به الراوي. بينما في قصة ـ صخب الرصاص الأخرس ـ التي تعد فصلا من رواية، لم يكتب لها أن تكتمل، يلوح لي الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو من خلال روايته الغريب، والتي أرى أن كامل مناخها يتفق مع مناخات أغلب قصص مجموعة إبراهيم الأسود. وقد يمتزج العبث بالسخرية من الحياة في قصة ـ ثمنا للشمس ـ عندما يعجز عن استبدال مسكنه الذي تسكنه الرطوبة، ولا تجد أشعة الشمس لدخوله سبيلا حسب نصيحة الطبيب، لكن ما إن تصدمه سيارة، حتى يجد نفسه بالمستشفى وفي غرفة تخترقها أشعة الشمس، الشمس الدواء.
وقد يلوح من خلال المناخ القاتم لهذه المجموعة الحلم بالخلاص مما يهيمن عليها من كبت قاتل، حلم كالقبس يطل ليختفي بسرعة. ففي قصة ـ الليل في مدينتي ـ يأتي الحلم بين شتاء وصقيع.
  (   ترى متى نعلن اندحار الشتاء؟ متى تأتي الحمامة البيضاء ببرتقالة مصقولة، دافئة كالحب.
     بدلتي البيضاء معلقة في الخزانة من أول الصيف يجرحها الانتظار، ويدمي أطرافها الصقيع.)
حتى وإن لاح الحلم باحتشام  في بعض القصص الأخرى، فسرعان ما يلفها السواد، أو السخرية المرة، وكأن الحلم في حد ذاته كذب وعبث لا طائل من ورائه، فما الحلم إلا شحنة للصبر على المعاناة، وقد يصل به الأمر  بأن يعتبر الحلم نقيضا للحياة في قصة أحلام بحار متعب.
ـ قالت أنت تحلم
ـ قلت لأنني لا أحيا.. أحلم
ـ قالت ستظل تحلم حتى الموت
وفي قصة الزورق الضائع يعتبر الأحلام التي تهّب أحيانا نسماتها عليه، ويصفها بالفضّية، فهي من المستحيل تحقيقها، رغم أن أحلامه بسيطة، فهي أمنيات بشر سوي لا تخرج عن أمنيات بني جنسه، لكن عندما تهيمن السوداوية، فإنها تحيل حتى الأحلام الوردية إلى كوابيس، وقد تتضخم له المعاناة لتتشكل لديه المأساة، في قصة ـ الزورق الضائع ـ.(.مأساتي أني لم أوفق يوما في تحقيق حلم .. أو تحقيق رغبة.). فليس الأمر لدى أبطاله مرتبطا بقناعاته الفكرية فقط في نظرته للحياة، بل لمعاناة على مدى السنوات التي لم تسعفه بتحقق رغبة.
ومن الأحلام طلب الحرية وبإصرار لكنه لا يفلح إلا في الانزواء والانغلاق على نفسه بعيدا عن الآخر الذي همّشه وأهمله وعاداه، ويظهر ذلك في قصة ـ الزورق الضائع ـ حيث يرى أن الحرية تساوي وتعادل الحياة، لكنه وقد فشل في حرية اختيار الحياة فأمنيته الكبرى أن يسمح له باختيار حرية الموت ص .26. وفي قصة ريح الشمال يرفض أن يدفع قسرا إلى منحى لا يرضاه، ويفضل الطريق الذي اختاره مهما كانت النتيجة.
(... لن أترك الريح تكيف مصيري كيفما شاءت، فالتكن لي على الأقل حرية اختيار الطريق الذي أسلكه ..
     واستعنت بكل ما أوتيت من قوة..مندفعا إلى الأمام في اتجاه معاكس لتيار الريح...ولكن مقاومتي انهارت دفعة واحدة، فسقطت على الرصيف والدم يطفح من وجهي، بينما أخذت قدماي تغوصان ببطء في الوحل..)     
  فالحرية لدى بطل إبراهيم الأسود غاية في حد ذاتها، لا وسيلة للمرور لتحقيق مآرب أخرى،  بل هي الحياة، الأكسيجين الذي يمنحه الحركة، وبدونها يكون الموت، حتى ولو كان يحسب مع الأحياء.
ويتبين من خلال المجموعة القصصية للكاتب غربة شخوصه الذكور وانفرادهم بحركة القص، أي أن الإشكال نابع من دواخلهم أكثر مما تسببه العوامل الخارجية، من نظرتهم الخاصة للحياة المشحونة بالإخفاقات المساهمة في إعطاء الجو العام، وكأن هذا الكائن مقصود، مرصود للنيل منه وطمسه، وحتى وإن ظهرت بعض الشخصيات الثانوية من ذكور وإناث في بعض القصص فإنها باهتة، غير محركة كما يجب للحدث، بل وكأن الراوي بضمير المتكلم، المهيمن على أغلب القصص كما أسلفنا، ينتقص من شأنها لعداوة له معها، وهو إن يدرجها فلتعمد إقصائها، لأنها جزء  من الآخر الذي ساهم في كبواته المتعددة والمتكرر، وكأنه الوحيد الذي لم تنصفه الأقدار.
ما يلفت الانتباه أن هؤلاء الشخوص عالمهم محدود، آفاق مغلقة حتى في حياتهم العادية، فهم بين غرفة بائسة وشارع مقفر، وحانة مقرفة، أي أن مجال حركتهم يهيمن عليه الإحباط، وقد يرون ما لا يرى غيرهم .
وإذا انتقلنا إلى تقنيات الكاتب القصصية، أفاجأ أننا نحمل نفس القناعات في هذا الشأن،  كتابة مجهرية، مركزة فقط على الحدث دون شطحات وإضافات غير مجدية. وكاتبنا كان وفيا إلى حد كبير إلى هذه التقنية  من خلال وحدات الحدث والمكان والزمان، إضافة إلى الاختزال الرهيب، فكلمة عند إبراهيم الأسود قد تغني عن عديد الفقرات، وهذه سمة الكتابة في مجال فن القصة القصيرة، والكاتب  يشتغل على ثقافة القارئ وفطنته، لأنه يكتب للواعين وليس للأغبياء.
ولعلنا نلاحظ من خلال نصوص المجموعة أن الكاتب إضافة إلى تمكنه من فنيات القصة القصيرة، فإنه أيضا يمتلك ثقافة واسعة في كل الفنون تقريبا الفلسفية، منها والتاريخية وكذلك الأسطورة، وغيرها من الزاد المعرفي الذي يؤهله لإثراء تجربته القصصية.

* نشرت هذه القراءة بمجلة قصص العدد 144 سنة 2008
كما نشرت طي كتابي قول في القص الصادر سنة 2010.

تعليقات