شهــادتي على العصــر



شهــادتي على العصــر

                                           الناصر التومي

 سمة شهادتي على العصر التي اتسمت به أعمالي الروائية لم تكن في البداية منهجا سطرته لأسلك دربه، الأرجح أني تأثرت بقراءاتي في البداية للتاريخ قبل أن أخط حتى قصصي القصيرة، ولعل هذا الهاجس هو الذي انتقل إلى كل عمل روائي وأصبح لازمة له، تتشبث الفكرة الروائية بمحدد تاريخي واقعي يعلمه كل الناس، ومن رواية إلى أخرى أصبح هذا التمشي ملاصقا لكل أعمالي الروائية،  فعندما تتبين لي ملامح القصة أبحث لها عن موقع تاريخي ويكون متناغما مع الزمن الذي تقع فيه الأحداث. وفكرة الرواية وأحداثها هي نفسها تكون قد وقعت في ظل الحدث التاريخي أي من المسكوت عنه، التي أصوغها من خلال شخصية أو حدث صغير، والباقي يتم عن طريق الخلق والخيال.
 ليالي القمر والرماد:
 متحصلة على جائزة علي البلهوان لبلدية تونس. في آخر السبعينات:
استوحيت الرواية من حكايات متفرقة لا رابط لها وشيء من الخيال، حاولت تركيبها لتكون عملا روائيا واحدا، جعلت لها إحدى مراحلها أحداث 9 أفريل 1938، والحدث التاريخي من ذكريات أحد أقاربي عاش ذلك اليوم المهيب بباب سويقة، وقد حاولت أن أكون صادقا مع الصورة التي رآها، وكان يحمل الجثث من الطرقات لإدخالها إلى الدور والمخازن. في هذه الرواية كنت شاهدا ببصيرة غيري.
الصــــريـــــر:
أحداثها جاءت في عشرية الستينات أغلب الشخوص عاشرتهم، فرج الحسيني، والجنرال والإمام، والتقازة الزرقة وقارئة الخفيف ببية، ولعلي كنت أحد شخوص الرواية لكني كنت متخفيا وراء شخصية حقي بطل الرواية، حيث كنت أصاحب ابنة الإمام إلى باب البحر وأنا لا أزال طفلا حتى لا يعاكسها بعضهم، وأدخل كل البيوت تقريبا، بيت الإمام لجلب الماء، بيت الجنرال لأحمل له ما يقتنيه من خضر وغلال من دكان الخضار، وكذلك الشأن مع فرج الحسيني. أي عشت أحداث الرواية بكامل تفاصيلها حيث كانت الزرقة التقازة وببية قارئة الخفيف تدخلان حتى بيتنا.
 الرابط التاريخي هنا هو تغيير في تركيبة مجتمع المدينة العتيقة حيث تفاجأت العائلات العريقة بزحف عائلات الجنوب مما تسبب في شرخ في مجتمع هذه العائلات لاختلاف في الطبائع والأمزجة والسلوك.
  بعد إنجاز هذه الرواية وحصولها على جائزة ابن رشيق لاتحاد الكتاب التونسيين أصبح لدي شبه قناعة أن علي المواصلة البحث عن الأحداث والوقائع المسكوت عنها في تاريخنا وواقعنا، لأنها من ناحية تكسب لها شرعية تاريخية ومن جهة ثانية تساهم في تأريخ هذا الواقع مهما كان شأنه. ومن هذا المنطلق كانت رواية النزيف.
 النــــزيــــف:
 تقع الأحداث في أحد ضواحي العاصمة حيث انتقلت بالعمل والسكنى أيضا، بعد الزواج وعشت أحداث الخميس الأسود، و عدت من العاصمة يومها حيث أعمل على القدمين إلى ضاحية بنعروس مقر إقامتي.
 شخوص الرواية معلومون من كل المتساكنين، كالسلطان حسن المناضل المدلل من الزعيم، رئيس البلدية، وخليفة القرد المعتوه، وشقيقته عزيزة التي اغتصبها أبناء السلطان حسن وفطيمة المغتصبة بمصب الزبالة، وخضراء البغي. لقد صوّرت أحداث الخميس الأسود وكأنها لم تقع إلا في تلك المدينة، بالإضرابات والتجمعات وخروج الجماهير عن السيطرة وحرقها للمدينة ونهب الملك العام والخاص.
 في هذه الرواية كنت موجودا ككاتب قصة قصيرة ورواية لكن غير فاعل فيها( ص 120 :عاد إلى مكتبه،( أي السلطان حسن رئيس البلدية) وجذب مجلتين من الدرج، تصفح الأولى ثم الثانية ورماهما على المكتب، لم يكن من مطالعي الأدب لكن بعضهم وسوس له أن ذلك العليل (منصور) أحد أعضاء مجلس ابن خلدون والكاتب القصصي قد نشر قصتين  في مجلتي الفكر وقصص، وإن كانتا من الأدب الرمزي، فإحداهما تشير إلى ماضيه والثانية إلى حاضره بأسلوب ساخر، ومما عكر عليه مزاجه أن صديقه الشاعر الصعلوك ثرثر أن هذا القاص بصدد كتابة رواية طويلة عما يقع في هذه المدينة، لا يترك فيها لا شاردة ولا واردة يفضح فيها المستور، أحد فصولها الهلاليون يعودون إلى الزحف).
ص 148  (الشاعر الصعلوك توسط تجمعا انطلق من شارع قرطاج يردد بمضخم الصوت قصيد إرادة الحياة للشاعر أبي القاسم الشابي، ومن شارع عقبة ابن نافع خرجت مظاهرة من بينها أصحاب اللحى تندد بالفساد والتجاوزات وتدعو بالرجوع إلى الأصل واتباع السلف الصالح والتصالح مع القدر. ومن شارع باريس تحركت جموع تحمل لواء الدعوة لاعتناق اللائكية والحريات المطلقة وإلى أخذ مدار بشمس الحداثة والعولمة ورفعت شعارات تبارك النظام العالمي الجديد. ( تسلل منصور إلى أعلى صومعة بالمدينة يراقب الملحمة) من هذه الرواية بدأ منصور كاسم هو خيال الكاتب يظهر في الروايات التي ظهرت بعدها) مثلما هو الشأن مع المخرج الآنقليزي هيتشكوك الذي يظهر في لمح البصر ويختفي في خواتيم أشرطته.
   الرابط التاريخي أحداث الخميس الأسود في السبعينات حيث تمرد الاتحاد العام التونسي للشغل على السلطة الحاكمة أدى إلى تصادمات كارثية.
 ولعل الأستاذة هيام الفرشيشي والقاص مبروك المناعي وهما من سكان هذه الضاحية يعلمان جيدا أغلب شخوص هذه الرواية.
 ـ الرسم على الماء:
 كنت داخل الرواية ككاتب قصصي ص 17( نشطت مخيلتي بعد اللقاء الأول( أي لقائي مع اسكندر)  باستغلال ما توفر لديها من أشرطة كنت فيها شاهد عيان للملحمة منذ بدايتها).
 وفي ص 168 ( كانت الأخبار تصلني عن نجوى واسكندر متناثرة متضاربة من سنة إلى أخرى، لكن تشكلها أوحى لي بالرواية، قصة حب بين شابين بدأت بالضاحية وانتهت بها. انتظرت النهاية كيفما كانت، ولعلي ذهبت في البداية إلى منحى رومانسي بحت في زمن غريب عنها، لكن واسكندر يطلعني على خفايا الأحداث تقوض ذلك المنحى وهيمنت الواقعية الجديدة القادرة على استيعاب كل التيارات وهضمها، كانت الشخصيات لا تتمرد علي بل تنصفني لصياغة رواية لا تخرج عن الخط الذي سطرته لمجمل كتاباتي بأن تكون مادتها الواقع كيفما كان ويكون.).
الرابط التاريخي  لهذه الرواية ، ميلاد البطلة نجوى يوم تغيير الحكم من العائلة الحسينية إلى الجمهورية التونسية الأولى وعدّته العائلة ميلاد شؤم، ومحاولة الانقلاب سنة 1962 وعكاضيات أعياد ميلاد الزعيم.
 رجل الأعاصير: المتحصلة على الجائزة التقديرية لكومار لسنة 2005:
أطل الكاتب منصور من أول سطر عكس الأعمال السابقة حيث كان يتسلل طي صفحات الرواية ص 5( واجهت منصورا صورتك بصفحة الأموات، ارتبك، وأسرع في قراءة الاسم، تبدد الشك، تاريخ الدفن بعد عصر اليوم.)
(ص155) في زيارته الثانية لك قلت لمنصور: لا شك خاب أملك لمّا نجوت، فأنت من محبي الخاتمة المأساوية، فأغلب شخوصك القصصية والروائية تنتهي حياتهم بالموت فأجابك بأن تركيبة الشخصية وظروف حياتها هي التي تحدد النهاية ولا ينكر أنه يدفع بها للنهايات غير السارة لكن مع شخصية علوان جابر المنسي فالأمر يختلف، فهو الذي سيحدد موقفه من الحياة، لكنك عارضته قائلا: متى كان الروائيون أمناء على الواقع، وقد وضعتم صوب أعينكم المقولة الشهيرة ـ الأدب مأساة أو لا يكون ـ فكل عمل قصصي وروائي حتى  ولو كان فيه قبس من الخلاص تحولونه إلى تراجيديا تستعطفون بها أحاسيس القراء).
 كان الرابط التاريخي في هذه الرواية هو بعث التلفزة التونسية في الستينات وموقف السلطة من حرب بنزرت ومن الإعلام والثقافة والفن.
 عندما تجوع اليرابيع:
 تقع أحداث هذه الرواية في عشرية الستينات من القرن الماضي لما حلّ الفيلسوف  ميشال فوكو للتدريس  ببلادنا، وهو الذي يدعو إلى حرية الجسد، فكان بطل الرواية على شاكلته لا هو رجل بالمعنى الكامل ولا هو بالأنثى، أغلب أحداث الرواية تقع في المبغى العمومي، حيث تتحكم فيه الداخلية، والبلدية، ويتدخل فيه الحزب الواحد.
كنت أتخفى وراء أحد شخصوص الرواية (منصور) الصحفي بائع الكتب القديمة بنهج الدباغين بداية من صفحة 159. ويعرفه كل من أدمن على كتب الرصيف.
المـــــصيــــــر:
 تمسح تاريخ قرية بين ثورتين، البداية ثورة علي بن غذاهم سنة 1864 والخاتمة ثورة 2011، ولعلها احتوت على تاريخ القرية وأساطيرها، والتحولات التي انعكست عليها من نظام الحماية وحكومة الاستقلال، وعهد الجنرال، إلى عهد ما بعد الثورة.
ـ صفحة 160كان اسمي (منصور) صبري استقيت اللقب من قولة والدي إذا تنهد قال صبري يقصد الصبر على الصعوبات:
ص 164 أخذت الحميّة منصور، حرر مقالا نشره بمجلة المغرب الأسبوعية حاول فيها اختزال مسيرة الدكتور مصطفى العلمية الموفقة.
وكاتب الرواية يناقش أحد شخوصه اليساري لاستغلال تيهه في الشرق الأوسط والأقصى جاء في صفحة207.
 ( سنحافظ على ما كنت تأمله في بداية انطلاقك، وجوهر تيهك في الآفاق وقناعاتك الفكرية والإيديولوجية، وما أحدثته بإرادتك وما فرض عليك، فقط تترك لنا هامش الصنعة الروائية بإدراج شطحات مجنونة أحيانا نخرجها من صلب مسيرتك فكرت فيها أم لم تفكر، أعجبتك أم لم تعجبك تفرضها مقتضيات العمل الروائي الناجح، كل كاتب له فيها شيفرات خاصة لا تتكرر لدى غيره  إلا ما ندر.)
جوابا لسؤال وجهته لي الأخت هيام الفرشيشي ضمن حوار لها معي عن استغلالي للتاريخ في رواياتي ومساحات الخيال فيها، وقد جاء بصفحة 184 من كتاب الرواية لدى الناصر التومي شهادة على العصر للناقدة والأديبة هيام الفرشيشي المنشور أخيرا عن دار سحر.
ـ سمة كتاباتي كخط مدروس من البداية  وعن وعي تام، هو أن تكون الأحداث والوقائع مستمدة من واقعنا، وكما يحلو للبعض أن يقول من تاريخنا غير المدون، وهي في نظري شهادات على العصر لا بد أن تكتب ضمن أعمالنا الأدبية بحرفية، وإذا لم نسجلها نحن أدباء هذا البلد فمن الذي سيتولى ذلك؟ لكن هذه الوقائع التاريخية كل كاتب له فيها زاوية نظر مخالفة لغيره، وبالتالي فإن الخيال سيحدد مجالات أو مساحات كبيرة للذهاب بعيدا لغاية فنية بحتة، ولا أرى في ذلك تشويها لهذا الواقع بل إبرازه ضمن لوحات درامية تكشف عن خفايا ما كانت لتخطر على بال القارئ لأنها تاريخيا غير معلومة فتبدو انعكاسا للحدث الرئيس ونتيجة، وبذلك يكتشفها القارئ وكأنه يطّلع على هذا الحدث لأول مرة، وهذا في نظري هو دور الروائي، البحث المتواصل عما يزيل غبار النسيان عن تلك الوقائع من زوايا مختلفة تستفز مسلمات القارئ إذا لزم الأمر، وتبعث فيه الدهشة، وقد تكون هذه الوقائع من الخيال الصرف لا يشدها إلى التاريخ إلا خيط واه، وذلك هو الإبداع الحق.
   روايتي الثامنة التي لا تزال تحت المجهر وقد بلغت مراحلها الأخيرة، ولا أعرف متى أنتهي منها، وهي أيضا شهادة على العصر لكن إلى الآن لم أجد للكاتب الروائي مدخلا ليكون شاهدا أو فاعلا، ربما لا يتسنى لي ذلك لا أعرف.



تعليقات