نافلة ذهب الانسانة والاديبة

نافلـــــــــــة ذهــــــب 
               الإنسانة والأديبة

بقلم : الناصر التومي 
                

نافلة الإنسانة
عرفت الكاتبة مـن قبـل الجميع بطهارة المــنبت، ودماثـة الأخلاق، ونقاء السلوك، سواء كان ذلك من خلال علاقتها بالساحة الثقافية 
ككاتبة، أو مسؤولة بوزارة الثقافة، أو من خلال إبداعها.

ولعـلي تساءلت كـيف ستكون شهادتي وأنا لـم ألتق بها إلا لماما بنادي القصة بداية من الثمانينات، هذا إذا لم تخني الذاكرة، ولما 
تجرأت واقتحمت هـذا المحراب الأدبي بعـد طول تـردد، لا أعلم هـل كانت حاضرة يــوم قرأت قصـة لأول مرة، ونال منها ومني فرسان النـادي الأشاوس. ولمـا واظبت نسبيـا عـلى الحضور كانت هـي قد تنــاقص ترددها، ثــم انقطعت مـع عدد مـن أعضائه الــذين دأبـوا علـى إثراء جلسات النـادي، ومن جهـة أخرى فإنه ليس لـي معهـا سبـل اتصال خارج هـذا الإطار، لكـني مـع هـذا قبلت تقديم الشهادة عساي أشارك فـي الاحتفاء بالكاتبة مـن زاوية قــد تكون لــم تتوفر لغيري مـن الذين عرفوها عن قرب.

أعرف نافلة ذهب ولا أعرفها، ليس هذا لغزا، إنما هو حقيقة، فأنا أعرف هذه الفتاة التي تقطن بحي الباشا، أي بفضاء نهج الباشا بالمدينة العتيقة خلال عقد الستينات، بينما تزاول تعليمها بالمعهد الثانوي للبنات بنهج الباشا، حيث أكـون أحيانا علـى الطوار، وقـد أمـر أمام منزلهـا فألحظها، فتــاة مليحة، خجـولة، وإن كانت تتبــع الموضة فـي ثيابـها وقصة شعرها، انظر قصة ـ القصر من القصر ـ في مجموعة أعمدة من دخان، فأغلب العائلات القاطنة بحي الباشا على وجه التمليك هـي مــن العائلات العريقة بالبلاد، كانت لـها الحظوة فـي عـهد الإيالة التونسية، سـواء للمكانة العلمية، أو لتقلدها مناصب هامــة بدواليب الدولة. وكــنت أضع عائلة هذه الفتاة في نفس المستوى من هذه العائلات نظرا لسحنتها اللافتة للانتباه، والقاطنة بمنزل فاخر، فلا أقارنها بصاحب هذه الشهادة النازح من الجنوب، والقاطن بالجوار على وجه الفضل، يبحث عن موطئ قدم بالمدينة وبمستقبل أفضل مـما لو بقي بالقرية. لذلك ولعل هذا مـن طبعي، لـم أتجرأ علـى التحديق فيهـا، بـل أسترق البصر كلما كانت لا تعيرني انتباها، ثــم إنها ليست مـن الصنف الذي يترك لـك الفرصة للتمعن فـيها، أو تفتح لـك مجالا لمشاكستها، نظـرا لشخصيتها المتزنة والمعتـدة بنفسها في غير صلف. 
      ومرت السنوات على ذلك الحال، وأنا لا أعلم اسم هذه الفتاة إلا أنها تشاطرني سكـنى حـي الباشا، ولعـلي شاهـدت صـورتها علـى إحدى الصحف تحـت قصــة أو مقال، وعرفت أنها تسمى نافلة ذهب، ورغـم أني اقتحمت عالم الكتابة بداية مــن السبعينات، فلــم أتجرأ بأن أخاطبها، ولـم يحصل ذلك إلا بنادي القصة بصورة مقتضبة، وكأنها مـا شاهدتني يوما في حياتها بحي الباشا، ولعلكم تستنتجون من هذا ما ينير لكم السبيل إلى شخصية المحتفى بها دون تزويق أو إثارة
.
ولعلنا كنا نلتقي بين الحين والآخر في بعض المناسبات الثقافية إلى حد بداية عــقد التسعينات، حيث ألتقيت بها فـي مظلمة تعرضت لهـا، كانت منعرجا في حياتي الأدبية.

أودعـت مخطـوط مجموعتي القصـصية ـ الأشكال تفقد هويتها ـ بالدار التونسية للنشر ـ قصد تقييمها ونشرها، و بعد سنتين تقريبا تصلني مراسلة من الدار مفادها بأنه تمت تزكية المجموعة من قبل اللجنة عـلى أن تنشر لاحقا. ومرت سنة تقريبا ولـم يحصل شيء، وعلمت أن الـدار تحتضر، وهـي مقبلة على إغلاق أبوابها، وأنـها لـن تنشـر أي عـمـل، وقـد يطول الانتظار دون طائل، بينـما وزارة الثقافة قـد فتحت متنفسا للكتاب بتمكين النصوص الجيدة من توصية بالنشر، فما كان مني إلا أن سحبت المجموعة القصصية مـن الـدار، وأودعتها بإدارة الآداب، مرفوقة بتـقرير التزكية، وبـعد انتظار طـال أكثر مـن سـنة ونصف، وتـردد على إدارة الآداب، أعلـمت بـعدم تمكيــن المجـموعة مـن التوصـية بالـنشر، فثارت ثائرتي، وطلبت مقابلة السيد مدير إدارة الآداب، فـإذا أنا أمام المديرة نافلة ذهب، فرحبت بي وهدأت من ثورتي وأخذت منـي كامـل المعطيات، على أن توافيـني بالنتيـجة فـي أسرع وقــت ممكن. وصدقوني لـقد كنت متشائما، فأنا أعلم جيدا الروتين الإداري الذي قـــد يفاجئك بمـا لا تتوقع ولا يخطر على بالك. لكن لـم يطل انتظاري، فـقد خاطبتني تطـلب مني تمكينها مـن المخطوط في أسرع وقـت ممكن، نظرا أن الـذي أودعته بالإدارة قـد فقـد بقدرة قـادر، ولـعل المخطوط قــد تبـخر قـبل حـتى الاطـلاع علـيه. فأسرعت إلـى نافـلة بصـور للقصص المنشـورة بالمجلات والصحف دون حتى مراجـعة تذكـر. ولم يطـل انتظاري أيضا، فـقد وافتـني بشهادة تثبـت حصول هــذه المجموعة على التوصية بالنشر. 
وأجدني كلما سنحت الفرصة أهبّ لحضور موكب الاحتفاء بنافلة ذهب، سواء كان لتكريمها أو بمناسبة صدور كتاب لها، ومثلا في هذه المناسبة فقــد اعتذرت عــن حضور ملتــقى محمد العروسي المــطوي بالمطوية الذي يقام فــي نفس التاريخ، وإني أجزم أن وقفتها معي لـم تكن لشخصي، بـل هو نابع مـن شخصيتها المعطاءة التي لا تبخل بأي جهد لإنصاف كاتب، أو أي كائن ما دامت قادرة على ذلك.

وهنا لا بد أن نعرّج على نزاهة هذه الكاتبة المديرة المنصفة، والتي وإن كانت المشرفة على عملية منح الكتّاب توصيات بالنشر، فإنها لـم تصدر مجموعتها القصصية ـ الصمت ـ التي كانت مكتملة ضمن هـذا الإطارـ التوصية بالنشر ـ بـل انتظرت حـتى أعفيت من الإشراف على إدارة الآداب لتنشرها علـى نفقتها، وذلــك تبرؤا مـن أصحاب النفوس المريضة. بينما غيرها باللجان التي لا تحصى ولا تعد بالوزارة يبدؤون بأنفسهم في المنح في أول جلسة قبل أي عطاء لغيرهم.


نافلة الأديبة:
   
   وكان لا بد لنا من وقفة سريعة مع كتابات القاصة نافلة ذهب التي أهّلتها للوقوف بيننا لتكريمها.
كانت البداية مع أعمدة من دخان المجموعة البكر، والتي جاءت بعالم قصصي حميمي، قريب مـن حياة الكاتبـة، في طفولتها وشبــابها، مشاهدات للمحيطين بــها بالحي بداية مـن العائلة إلى الذين يشاركونها الجيرة، في لغة شعرية، بجمل قصيرة، وفـي اختزال عجيب، بلغة وأسلوبين غيـر تقليديين، بـل مواكبين لما طفرت بـه الكتابات الجديدة فــي تلك الفترة بظهور شـباب مثقف، مطــلع علـى كتابـات الشرق والغرب ومتشـبع بالتراث، والذين جاؤوا بنفس جديد مغاير في الشكل والمضمون، والذين سمّـوا بكتاب الطليعة. اشتغلت الكاتبة فــي هــذه المجموعة علـى عديد الضمـائر بصيــغة الغائب، محافـظة فـي الغالـب علـى أهــم عناصر القصة القصيـرة كوحدات الزمان والمكان والحدث، لكنها تمردت علــى الخواتيم،  فكانت في الغالب غير مفاجئة، لكنها تلهمك الأسئلة والحيرة  
والدهشة أحيانا، وهذه التقنية هي سمة أغلب كتاب الطليعة.

الشمـس والإسمنت، وإن حافظت الكاتبة علـى نفـس السمة فـي المجموعة، فإنها قد تحررت نسبيا من جاذبية الذات والمحيط إلى عالم أرحب، إلى شخوص وأحداث خارجة عن عالمها، وهذا التحرر جعلها تخوض خضم مواقف الآخرين من زوايا مختلفة، وهـذا يتطلب معاناة  أكثر في نظري، لأنه من السهل على الكاتب ترجمة أحاسيسه، لكنه يجد صعوبة فــي تقمص شخوص الآخرين وإشباعها بقناعات غريبة عنـه  إضافة إلى معضلة وصعوبة إقناع القارئ بها.

الصمت، كانت مع انطلاقة جديدة، فقد قطعت مع صيغة الماضي الصرف وكـان وأخواتها، وانسلخت كلـيا مــن بقايا الكتابة التقليدية، وانسابت مع أسلوب جديد، يختلط فيه الماضي بالحاضر، في مراوحة جميلة، وبذلك اكتسب أسلوبها إشراقة وحداثة فـي التعبير. وفــي هـذه المجموعة أضافت إلى اختياراتها القصصية التعامل مـع التراث فـي قصتي الصمت والباز، وكذلك هموم المجموعة في قصة نهج القاهرة، وعلل نفسية وأحداث مفجعة، وظهر ضمن صيغها التعبيرية فــي هـذه المجموعة اشتغالها على أكثر من قصد ومغزى فــي العبارة الواحدة أو الجملة الواحدة، دون مغــالاة ولا غموض ممــا يثري النص بأكثر مــن قراءة.
حكايات الليل، حافظت على كل عناصر نجاح مجموعة الصمت كما أسلفنا، لكن الكاتبة لم تسمح لنفسها أن تخلو مجموعتها الجديدة من نفــس جديد يعتبر إضافة، فقــد صاغت قصصها ضمن أسلوب الحكي الشفوي القديم، سواء كان ذلك بفاتحة النص أو بين ثناياه، كما لاحظت تعــدد الأزمنة والأمكنة فــي القصة الواحدة، وأذكر أنـي تساءلت فــجر صــدور مجموعتها هــذه ـ حكايات الليل ـ أثنــاء الاحتفاء بهــا بفضاء الطاهر الحداد الثقافي عــن الشكل الحكائي المعتمد، هــل وضع بوعي، القصد منه الإضافة وثراء التجربة، أم هو نوع من التوشية لا غير.

المطلع على المجموعات الأربع للكاتبة يلاحظ أنها لا تقف عــند التجربة الماضية، بل هي شغوفة بالإضافة المتزنة والغير خارجة عــن إطار جنس القصة القصيرة أو الحكي، وواعية كل الوعي بها، وغــير متسرعة، وليـس لهـا سباق مع أحـد، ولا حتى مــع نفسهـا، ديدنها اختمار الفكرة، والغوص فـي زاوية النظر الثرية، والأسلوب الشعري  والشكل المناسبين، حتى إذا ما اكتمل الاستواء ولو بعد حين، تحل ساعة التجسيم، ولعل المتثبت في تواريخ إصدار المجموعات يستشف دون طول عناء ما ذهبنا إليه، حيث تمر أكثر مــن عشر سنوات من الإبداع قبــل ظهور المجموعة الأولى، لتليها الثانية بعــد ست سنوات، وننتظر عشر سنوات لتـصدر مجمــوعتها الثــالثـة، وكذلـك نفـس السنـوات لتطـلع علــينا بإصدارها الأخير.

  المطلع على كتابات نافلة، يقف على حقيقة تشبعها بالفضائل ضمن إبداعها، دون محاولة إبــراز ذلــك، تجنبا لإشكاليــة الوعــظ والإرشاد المرفوضة فـي القصة القصيرة أو حتى في الرواية،  وإنما يظهر مــن خلال علاقة الشخوص ببعضها، و فلا تستنجد بالمشاهد الجنسية لإثراء نصها كما يحلو للبعض، ولا تتوسل بكسب شفقة القارئ علـى شخوصها بإضفاء المسكنة وفظاعة رد الفعل، إنما تطرح الإشكالية في شبه تجرد، فـلا تحاكم أحـدا، مؤمنة بـأن الظروف هـي التي فـي الغالب وراء الانحرافات والأخطاء الفادحة، وهي سمة أغلب الكتاب الكبار الذين يتورعون عن توجيه أصابع الاتهام لشخوص أعمالهم الروائية.
ولعلي لا زلت أنتظر، ولم أيأس بـــعد مــن أن تصدر لنافلة ذهب رواية أو أكثر، فهي تمتلك كل الأدوات التي تخول لها خوض غمار هذه التجربة وبنجاح، فلم تكن في يوما مـا أقل قدرة من اللواتي سبقنها فــي كتابة الرواية.
و لا يسعني إلا أن أختم، بأنــه كلما اقتربت مــن الأشياء، وكذلك الأنفس، كلما اكتشفت فيـها عيوبا أكثر، باستثناء نافلـة ذهب، فكلما دنوت منها أكثر اكتشفت مزيدا من الصفاء والنقاء. 


* ألقيت الشهادة في الدورة الخامسة لملتقى القصة والرواية بمنزل بورقيبة ـ دورة نافلة ذهب ـ بتاريخ 23 مارس 2008

تعليقات