محمد العروسي المطوي الأديب

محمد العروسي المطوي الأديب:

بقلم : الناصر التومي

لاشك أن الأدب في جوهره لن يكون مخالفا لنشاط واختيارات ومبادئ الكاتب خارج العمل الأدبي، فما يخطه هو رحيق يرشح بفضحه من خلال شخوصه.
والمطوي كان إنسانيا في علاقته مع الآخر، وكذلك كان الشأن في إبداعه الروائي في روايته حليمة والتوت المر، فنستطيع أن نقول أنه جاء كروائي في فترة جفاف لهذا الجنس الأدبي. البلاد لا تزال فتية، والفنون تتشكل بصعوبة البداية، وعلى الذين لهم القدرة على الكتابة أن تكون لهم الشجاعة على إبراز إبداعاتهم وسط الزخم الروائي الوافد من الشرق والغرب المهيمن على الثقافة المحلية والقارئ التونسي، أي كان المطوي من القلة التي آمنت بتكسير الحاجز الوهمي وإظهار الأسماء التونسية كالبشير خريف، ومصطفى الفارسي،  وغيرهما، أي لا بد من اللبنات الأولى لتشكيل الرواية التونسية، فكان المطوي ممن لبى نداء التحدي لتتصدر الرواية التونسية رفوف المكتبات.
وإذا توغلنا  في رواية حليمة مثلا المتحصلة على جائزة بلدية تونس سنة  1962 أي بعد حصول رواية  البشير خريف برق الليل بنفس الجائزة، يتضح أنه مع تثقيف المرأة وإبلاغها المكانة التي تستحقها كأم وزوجة وابنة، لتجابه مصيرها جنبا إلى جنب مع الرجل، وحليمة لا تكتفي بالزواج والبقاء بالبيت وتربية الأطفال، وإنما كان طموحها مشاركة هذا الزوج كفاحه مع بقية المناضلين، وخاطرت بنفسها في بعض العمليات.
وتأتي رواية التوت المر بعد ثماني سنوات تنبش وضعية إنسانية  في عائشة الكسيحة، واستفاقة بعض الشباب على خطر سموم التكروري الذي يتعاطاه أغلب سكان القرية بتشجيع من سلطة الحماية، ويقررون الاعتراض على هذا الاختيار القسري الذي فرض على شعب مستعبد، حتى يفقد رجاحة عقله فيسهل انقياده، ويصل الوعي بعبد الله إلى حرق دكان والده المروّج لهذه السموم  وقواد سلطة الحماية.
والمطوي يؤمن بأن الشعب إذا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر، وقد أتى ذلك في رواية حليمة برسالة بعث بها عبد الحميد إلى زوجته:
ـ أرجو أن تكوني بخير... الوضع حسن جدا، ونصرنا نهائي لا ريب فيه، أذكرك بالعهد الذي قطعته على نفسك، والذي ارتضته القيادة السرية، أنا على يقين بأنك ستكونين عند حسن الظن، وإلى اللقاء في عهدنا الزاهر السعيد، عهد الحرية والاستقلال..
وإن جاء تفاؤل المطوي بالاستقلال بروايته حليمة، فقد جاء في إطار حدوث المعجزة في رواية التوت المر، لما استوت رجلا عائشة وهي تضع مولودها الأول وهي كفاءة من القدر والكاتب لفتاة قضت طفولتها وصباها كسيحة، وهدية أيضا إلى عبد الله زوجها الذي تحدى كل التقاليد والأعراف والمنطق وتزوج بها من أجل إسعادها، وهو يعلم ألا أحد يرضى بها زوجة، وإن صرح بأنه لم ينجذب إلى فتاة غيرها بالمرة، وجاء ذلك في أحسن تعبير وأعذبه على لسان الزوج الذي أحس أن الأقدار قد أنصفته من دون خلق الله بالقرية، وانطلق نحو أمه وهو يردد:
ـ لالا قبل أن أرى الطفل، قبل أن أرى عائشة سأذهب إلى أمي، سأخبرها.. سأقول لها إن عائشة انطلقت رجلاها... لم تبق عنزا جرباء... ستمشي على قدميها... ستكون مثل النساء الأخريات..
وعبد الله هنا ليس في موقف كبرياء بإظهاره لأمه رجاحة اختياره لعائشة كزوجة، وإنما كان متعطشا إلى حضن أمه وحنانها اللذين افتقدهما من يوم إصراره على الاقتران بعائشة.
والكاتب هنا شاعر أن المرأة قبل الاستقلال تعاني من عديد المظاهر، الفقر، الأمية، سطوة الرجل، فقدان النصير، انعدام أبسط الحقوق، لذلك جاءت روايتاه حليمة والتوت المر كتعبير عما يرجوه لمستقبلها من كرامة وإنصاف، بما أنها كائن لا يقل قيمة عن الرجل، لذلك كان إنصاف الأقدار لعائشة في رواية التوت المر وتعلمها ومشاركتها في النضال التحرري في حليمة.
ذلك كان موقف المطوي الإنساني من المرأة الذي تواصل حتى مع علاقته بكل الكاتبات اللواتي وجدن منه المساندة الأدبية الكاملة، بتشجيعهن على الكتابة، وتوجيههن إلى المسلك السليم، وتبني كتاباتهن سواء بنشرها بمجلة قصص أو إصدار مجموعاتهن ضمن منشورات قصص.
موقف المطوي من لغة الضاد:
ختاما أردنا أن نعرج على موضوع هام أشار إليه المطوي، لكنه لم يجد الصدى المرجو. فالمطوي ليس من أولئك الذين يبحثون عن مخالفة الآخرين للبروز، بل يحاول أن يكون محبوبا من الجميع، لكنه يصدع برأيه  الذي يؤمن به دون وجل من رد الفعل، ولا يسعني إلا أن أذكر موقفه من لغة الضاد التي اعتبرها المطوي لغة ميتة لكونها لغة كتابة وليست أداة خطابة، وهو ما يعيق متعاطيها في نظره على امتلاك ناصيتها وتطويعها بأقل جهد وفي زمن مناسب، ونتيجة لذلك يسلب المطوي اللغة العربية أحقيتها بأن ترتقي إلى مرتبة اللغات الحية العالمية.
جاء هذا الموقف من المطوي بمناسبة تقديم رواية عادل للأديب البشير بن سلامة بمنتدى القصاصين باتحاد الكتاب التونسيين يوم 29 أفريل 1994 لما كنت مشرفا على هذا المنتدى، ولدى تغطيتي لهذه الأمسية بجريدة الصباح أوردت هذا الرأي تحت عنوان صغير  ـ قنبلة محمد العروسي المطوي ـ ولدى تكريم المطوي بمهرجان البحر الأبيض المتوسط وكنت المعد لهذه الأمسية ومنشطها بتاريخ 2 أوت ،1994 أعاد المطوي على الحاضرين موقفه بكل تجرد، قائلا بأن هذا الرأي  كرره مرارا في عدة ملتقيات عربية، وهو يؤاخذ كتاب العربية، ولا يتهم العربية نفسها، التي مع اللهجات العامية أو الدارجة تمثلان ازدواجية معرقلة لتعليم النشء، حيث أن الطفل  يتربى على المخاطبة بالعامية، وما إن يبدأ مشواره التعليمي حتى يصدم بتعلم العربية الفصحى وكأنه يتعلم لغة أجنبية عليه، بعكس الطفل الفرنسي مثلا الذي يتعلم لغته الأصلية الفرنسية منذ بداية وعيه بالسمع والمخاطبة من والديه، حيث لا يجد صعوبة كبيرة في تعلم لغة الكتابة عند بداية الدراسة، مؤكدا أن الأديب أحمد أمين قد أشار منذ خمسين سنة إلى هذا الأمر. وأضاف المطوي أن جل الكتاب لا يخوضون في الخفايا والأعماق، وإنما يركزون على الظاهر والسطحي والسهل، فلغة التخاطب ألفاظها إما مسميات محلية أو أسماء أجنبية غير موحدة بالقطر العربي، وأشار أنه ألقى محاضرة في إحدى ملتقيات ابن منظور أطلق عليها ـ المعجم المفقود ـ ودعا إلى تطوير اللغة العربية الفصحى لتكون حية مستعملة سواء كان ذلك في المدرسة أو في الشارع.
وأمام هذا الموقف الجريء من المطوي الذي لم يجد معارضة من أحد رغم حضور أدباء وأساتذة جامعيين في كلا الجلستين الأدبيتين، حررت مقالا بعنوان ـ موقف محمد العروس المطوي من لغة الضاد ـ أوردت به عديد التساؤلات، عسى أن أدفع بعض الأقلام إلى مناقشة ما ذهب إليه، وبعثت به إلى جريدة الصباح وبالتحديد إلى الصحفي محمد بن رجب الذي أبى نشره قبل استشارة المطوي، لما احتواه المقال من تساؤلات تضعه في قفص الاتهام، وكان على محمد بن رجب إلا أن يقرأ ثلاث صفحات مرقونة على المطوي بواسطة الهاتف، فلم يحترز المطوي على أية كلمة ونشر المقال، ولم يصدر أي تحفظ من أي كان عما جاء به، رغم أن العديد من الذين لهم صلة بالكتابة اعترضوا على موقف المطوي في الخفاء، لكن احترامهم وتقديرهم له منعهم من مناقشته في هذه الإشكالية المطروحة.
وفي الختام فإن الذي يعرف المطوي عن قرب يعلم جيدا أن الرجل عاش بالثقافة ولها، لذلك وهو يهدي مكتبته إلى بلدته المطوية ومسقط رأسه، إنما الغاية منها تركيز منارة تواصل مسيرته الثقافية لأكثر من عمر.

*ألقيت هذه المداخلة  بالمطوية بمناسبة إهداء محمد العروسي المطوي مكتبته إلى مكتبة المطوية سنة

تعليقات