محمد العروسي المطوي الإنسان

محمد العروسي المطوي الانسان.

بقلم : الناصر التومي

   لا شك أن كل أديب استطاع أن يواصل مسيرته الثقافية إلى عقود عديدة بنفس الطموح والتوهج رغم العراقيل التي تعترضه بين الحين والآخر هو من معدن نادر،  معدن لا تؤثر فيه التحولات وإن تعسفت.

وكان شأن أديبنا محمد العروسي المطوي مع الكتابة، شأن الكائن مع قدره، في التحام متواصل لا ينفصم، لذلك فإن مسيرته الإنسانية والأدبية زاخرة بالإصرار على تحقيق ما عجز عنه أغلب أسلافه من كتاب تونس في القرن العشرين، لا فقط فيما يكتبه، بل حتى فيما يخطه الآخرون، وسنحاول تبيان ذلك في ما يلي:
كان منذ البداية وهو يمتهن التدريس بجامع الزيتونة مثال المثقف الواعي برسالته نحو بلده وثقافتها بشهادة من أحد تلامذته وهو الأديب محمد يحيى الذي يقول فيه:

ـ المطوي يعامل باحترام كبير من طرف طلبته دون رهبة، ويتصل بالشباب، ولا يبخل عليهم بالرأي السديد، ويحترم التوقيت المخصص لإلقاء الدروس التي كانت تلقائية، وتتميز بخاصية المطوي دون غيره. فمثلا يعطي المعلومات التاريخية مكتوبة، ويروّجها أحد الطلبة لزملائه بعد الدرس، حيث لا مجال لدى المطوي للحصص الإضافية، ورغم موقفه من الإصلاح التربوي والتعليمي بالزيتونة، فقد كانت كل الأطراف تتفاعل معه بتقدير كبير، محتلا مكانة فريدة بين المشائخ...
والمطوي شغوف بالانتماء إلى الجمعيات الثقافية والرابطات الرياضية والنشاط ضمنها، وكان مواظبا في أوائل الخمسينات على تحرير مقالاته الصحفية بجريدة العمل لسان الحر الدستوري التونسي تحت عنوان ـ حدثتني نفسي ـ .

ولم يكن المطوي صاحب فكر منغلق متقوقع، ويتجلى ذلك في علاقته بالمجتمع والتحولات، وفيما يخطه قلمه، بارتقاء صهوات كل جديد ناجع دون أن يفرط في الثوابت، لذلك كان يحسب على التقليديين بلغته المتينة، وعلى المجددين بأسلوبه وتقنياته المتطورة على الدوام، ولعلنا باستحضار مقولة للدكتور مصطفى الكيلاني في مناقب المطوي ما يفتح لنا آفاقا واسعة:

ـ لقد آمن الأستاذ المطوي بالاختلاف مذهبا وسلوكا وكتابة، رغم انتمائه الأول إلى فكر واحدي، مثل في تقديرنا الخاص أبرز قوى التراجع على امتداد تاريخ الثقافة التونسية المعاصرة، ولكن تجربته الأدبية استطاعت أن تنتزع من ذلك الفكر صفة الاغتراق في التجريد، وتقتحم به وهج الحياة الراهنة، ووقائع التاريخ الصادم، فكانت ـ ومن الضحايا ـ وحليمة ـ والتوت المر ـ ولم تنغلق الكتابة في جنس أدبي واحد، بل نزعت إلى تعدد في الأساليب والمشاغل والأفعال، وإذا الفكر الذي تربّى عليه الأستاذ المطوي، وقد تجرد من واحديته وانغلاقه واكتسب حضوره التاريخي، أمسى قوة فاعلة في الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، وعند تأسيسه الدولة الوطنية، إذ هو علامة الذات الفردية والجمعية في آن، تسعى إلى المحافظة على ما تبقى من الموجود في دائرة المفقود المتسع. ـ
وفي نفس السياق نستحضر شهادة الأديب البشير بن سلامة في حقه:

ـ فالمطوي هادئ المظهر في الظاهر، ولكنه ثوري في الباطن على كل ما هو سائد، في السياسة والثقافة والأدب بالطبع إذا كان السائد لا يتماشى مع قناعاته وقيمه الثقافية، وذكاء المطوي المرن لا يستند إلى دغمائية أو إديولوجيا مهما كانت، سواء كانت أساسها الدين أو المذهبية الضيقة، لذلك تمكن من تخطي الصعاب في حياته السياسية والثقافية، فاتسم بالنزعة الإنسانية البعيدة عن الأهواء والأحقاد والضغائن.
بعد نزعه المطوي للجبة والعمامة، وارتدائه للبدلة الإفرنجية، وامتهانه السلك الديبلوماسي، و ذهب أشواطا في الكتابة شعرا ومقالة، فرواية وقصة قصيرة ورئاسة للنادي الثقافي أبو القاسم الشابي، ونادي القصة، وإصداره لمجلة قصص التي لا تزال شعلتها مضاءة إلى حد هذا التاريخ، ورئاسته لاتحاد الكتاب التونسيين والأمانة العامة لاتحاد الكتاب العرب، بعد كل هذه المسؤوليات التطوعية الثقافية عبر هذه العقود والأجيال المتوالية بقي ثابتا على مبادئه دون كبرياء ولا تحجر، لذلك كان ولا يزال محل احترام الجميع.
ومن خلال مسيرته الإنسانية الفكرية تتجلى الرؤى المستقبلية التي سار على نهجها، أفرزتها الصيرورة، وتوالي الأحداث، وظهور أطروحات ونظريات جديدة كان لها التأثير الكبير على المثقفين الذين انخرطوا في النضال بدرجة أولى من أجل إخراج المستعمر، فكانت قصائد المطوي ومقالاته بجريدة العمل لسان الحزب الحر الدستوري التونسي بعنوان ـ حدثتني نفسي ـ التي أظهر فيها عمقا فكريا كان له الأثر الطيب لدى النخبة المثقفة الواعية.

كما إنه عرف عبر أجيال المثقفين الذين تعامل معهم باتحاد الكتاب التونسيين أو نادي القصة بدماثة أخلاقه وطيب سريرته وحلمه، لا يصدع بما يخالف مقولة كليمه، بل يمتص ثورته بابتسامته العذبة تارة وبالصمت تارة أخرى، وسريعا ما ينسى أو يتناسى مشاكسات بعضهم، لذلك أحبه الجميع وإن خالفوه بعض اختياراته، وكان له الفضل في ظهور عديد الأقلام المبدعة في القصة القصيرة والرواية بتشجيعه لهم، والأخذ بأيديهم لنشر إنتاجهم.

من مواقفه الخالدة إصراره على بقاء شمعة نادي القصة مضاءة طيلة ما يزيد على خمس وثلاثين، وكذلك الشأن مع مجلة قصص رغم العوائق التي تخللت هذه المسيرة الموفقة لمدة ثلث قرن، حتى أن أغلب كتاب القصة القصيرة والرواية بالبلاد كانت بداياتهم من  فضاء نادي القصة أو به صقلت مواهبهم، لذلك فإن المطوي يعد نادي القصة المنارة التي صاحبته والأجيال المثقفة بالبلاد من صبح الاستقلال إلى حد هذا التاريخ، وبالتالي يصعب عليه التفريط في هذا المكسب الذي يتوقف إشعاعه في محيط البلاد، بل يتعدى إلى العالم العربي بإقبال العديد من الأدباء العرب على هذا النادي، ونشر إنتاجهم بمجلة قصص التي ذكرت في الموسوعة العالمية نوفارساليس دون بقية المجلات العربية المختصة، ويعد المطوي نادي القصة ومجلته وساما ثقافيا تفتخر به تونس بدرجة أولى لما سجلاه من استمرارية.

تعليقات