العزف على وترٍ شجيّ

 العزف على وترٍ شجيّ

قراءة في قصيدة (( مسوّدة )) للشاعر جبار الكوّاز
·  
  عبد السادة البصري

لم تكن قصيدة ، تلك التي نشرها الشاعر جبار الكوّاز في جريدة (الوقائع ) التونسية مؤخراً ، بل سمفونية شجنٍ من نوع خاص ، رغم أنه منحها ثريّا نصٍ بعنوان ( مسوّدة ) ، وهنا نقف قليلاً لنراجع أنفسنا :ــ لماذا مسوّدة ؟!
نعرف جيداً ما تعنيه هذه الكلمة ، وما وراءها من حفريات وإعادة بناء كالشطب والإضافة والتهميش وغيرها ، لكنه يصدمنا في مستهلّ مسوّدته هذه حيث يقول :ــ

( لم تكن ورقة
أخرجتها من سلّة القمامة )
إذاً ما سنقرأ عنه الآن لم يكن مدوناً في ورقةٍ ما ، بل هي حياة أناس مرّوا على هذه الأرض :ــ
( فحين حاولت أن أعيد تسويتها
بكفيّ
قفزت من بين أصابعي )

نتساءل :ــ ماذا قفز من بين أصابعه ؟! فيعدد ما انبعث قافزاً من بين أصابعه ، والتي نفخ فيها الحياة والانسنة وحكايات التاريخ ، بمعنى الولوج من بوّابة التخيّل السردي / الشعري إلى أغوار التاريخ الحقيقي للبلاد !!
وهذا يعني أن  الورقة هذه لم تكن مسوّدةً ، بل شريطا سينمائيا سيمرّ عبر الذاكرة بخطوط مستقيمة الأشعة من العينين وخلل الأصابع إلى طاولة البوح ، لنعود بذاكرتنا حيث البلاد التي احترقت أحلامها ذات يوم ، فصار تذكارها أشبه بمسوّدة مرميةٍ في سلةِ القمامة ، يتلقفها الشاعر ليعدد :ـ

( خيولٌ ظمأى
ونساءٌ مسبياتٌ
وغاباتٌ تلهث محترقةً بالأرواح
ومدنٌ جدرانها
لطخات دماء
وأنهارها ظمأ
وأزقتها راياتٌ محترقة
وبابها نشورٌ إلى الأين )

من هذه الكلمات أو التوصيفات نعرف أن الشاعر سيأخذنا برحلة عبر الأزمان حيث فقدت البلاد هدوءها ، وصحوها ، وفرحها ، وأمانها ، واصطبغت أنهارها باللون القاني ،، ومَنْ غيرها :ــ بلادي ؟!

ليستدرك بعد سرحته الحلمية مع عوالمه التي منحها الحياة لتنسلّ هاربة من بين أنامله وهو يتابع انسلالها بعين الرائي قائلاً :ــ
(ارتبك المعنى بين شفتيّ
وانبرى قلمي :ــ صارخاً
أيها الواقف بين النور والظلام ))
ليجعلنا نتساءل :ــ مَنْ هو الواقف بين النور والظلام / الخير والشر / الحياة والموت / النعيم والجحيم ، غير الإنسان ؟!

وها نحن الآن  وصلنا إلى لُبِّ الموضوع ، أو بيت القصيد كما يقال ، وما يبتغيه الشاعر في ورقته التي استلّها ذات يوم من سلّة المذكرات ، لا القمامة ، انه يريد التواصل مع الروح البشرية في أي مكان ليحذّرها :ــ
( حذار
فقد انسلّت منها
عيونٌ من حجرٍ
واذرع من شواظ
وسيقان من قصب الذاكرة )

هنا يؤكد أن الأشياء والكائنات التي انسلّت من بين أصابعه لم يستطع السيطرة عليها ، فتحولت الى ( ميدوزا ) لتعيث خراباً في الأرض ، بعدما أفسدت العقول وحجّرت الضمائر!

ويترك ورقته على حالها ، ليعود إليها بعد رحلة رعبٍ ، محاولاً تسويتها ثانية ، وبطريقة ( الفلاش باك ) كي يلج ذاكرة المدينة ، وتحديداً مدينته ( بابل ) :ــ
( أوقفني كهلٌ في حارة ( اليهود )
قادني الى مقبرة دارسة
ما زال أنين سكّانها
يدقّ أبوابنا كل ليلة
ليسمعنا نشيد الملوك )

ليمزج ما بين المدينة العامرة بتاريخها الذهبي ، وما حلّ بها ذات يوم على أيدي الأعداء المختلفي الأجناس والأقوام والنوايا ، ليظلّ يسرد لنا ما جرى من حوادث في تاريخها ، رابطاً بينها وبين ما يجري الآن :ــ

( فتاريخ الجند قد
خبّأه فيها
صاحب حسبةٍ أخرق
تناسى كلمة السرّ الأميرية
لفتح مغامرات أرواح شهداء الجسر )
مروراً بالغزاة ــ مرحلة مرحلة ــ مردداً احتفالاتها التي تلوثت بالدماء ، وداعيا حفيد الآلهة ( كلكامش ) وصديقه ( أنكيدو ) أن يعيدا مجدهما في حانة ( شمخة ) ذات يوم ، بعدما ضاعت كل أحلام الصبايا والزهور عند باب ( النعمان ) المتهدم اثر سنابك الخيل التي داست كل ما شيدوه ، وممتزجا بعويل اليتامى وصراخ الايامى ، ومياه النهر المصطبغة بلون أحمر قانٍ ، وبمحاولة جريئة منه لمحو كل شيء ، يظل هناك صدى لكل ما مرّ على هذه البلاد من أقدام غزاة / قتلة / خيول / وصليل سيوف ورماح :ــ

( ما زلت أمحو
وأمحو
وأمحو
الأصوات تتعالى
سنابك الخيل تخبّ الحروف
عويل الأيتام مسك زمام السماء )

ويكرر صرخة محوه ، عسى ولعله ينسى  ما حدث ماضيا وحاضرا ، ويبتعد القلق المعرّش فوق خيالاته من مستقبل مجهول:ــ

( ما زلتُ أمحو
وهم يتكاثرون
كل لحظة
من تحت أصابعي
ويغنّون
كأنّ ( العراق ) بستانهم )
هنا تأكد الحلم / الكابوس الذي عاشه الشاعر من خلال حمله لحروف هذه المسوّدة التي ما نشفت يوماً من أثرٍ لغازٍ أو معتدٍ أثيم:ــ
( كأنّ ( العراق ) بستانهم
وهم يعلمون
انه خُلِقَ عجباً
من ( كن فيكون )
ونخلةً
ما زالت تئّن من جراحاتِ
حروبٍ منسيات
وحروبٍ قائمات
وأخرى ستقوم )

في قصيدته هذه أخذنا الشاعر جبار الكوّاز برحلة عبر الزمن رغم بكائيتها ، رحلة في أعماق الوجع العراق ، منذ فجر السلالات وليوم الناس هذا ، ما انفكّ يطاردنا ، بل يتغلغل الوجع هذا في كل مساماتنا ، وينسلّ من بين أصابعنا حروفاً وأنغام لاستذكارات حزن البلاد، البلاد التي نزفت وتنزف كل يوم ، انه ــ اقصد الشاعر ــ عزف لنا على وترٍ شجيٍّ بروح العارف المتبصّر لما جرى ويجري على أديم هذه الأرض !

انه يحفر في تاريخ البلاد والناس ، ليخرج ما بين أصابعه قصائد ، لم تكن  مسوّدات ، لا بل ذاكرة حيّة لبلادٍ نهاراتها ولياليها بكاء ، حيث تحاصرها الحروب من كل جانب ، لتطبق عليها بكابوس الفجائع كل يوم ، وكأنها خُلِقتْ للألم !!!!!


تعليقات