(نسق التزامن في حريق كاتدرائية نوتردام)

(نسق التزامن  في حريق كاتدرائية نوتردام)
قصيدة وقراءة
  كتابة: سالم محسن

القصيدة :(حريق في كاتدرائية نوتردام* )
في هذه الليلة ..
سيجري نهر "السين" حزينا ..
وتكون المقاهي في مقاهي  " الشانزليزيه"
– على غير عادتها – مكفهرةً واجمة
وستكون عيون العشاق على المصاطب في حدائق " اللوكسمبورغ  "
مخطوفة واجمةْ
وسيذهب أهل باريس كلهم الى اسرتهم
محملين بالألم
مفجوعين بكاتدرائيتهم ...
امهم التي اشتعلت بثيابها النيران ...
...
وفي الجهة الاخرى من الكرة الارضية ..
عند زقورات العالم القديم ..
في المدينة التي هي ماءٌ ونخل
ظل سكانُها: عباد النخيل
مهمومين ،مندحرين
فقد غادرهم – على حين غرة –
ودون أن يعلم أحداً
كاهنهم
وخازن مفاتيح مدينتهم
وحامل طغرائهم المجيد  
.............
حينما هويت منكفئا
وانت عائد الى البيت
وتناثر على الرصيف
ما كنت تجمله من اطراس واختام
وودائع ومفاتيح
واسرار استودعتها عندك اصدقاؤك الراحلون

وقفنا عند راسك وناديناك :
لا تفجعنا يا أبانا
انهض ايها الباشق
فلمثلك لا يليق الانكسار
ولقلبك الذي يشبه قلب الاسد
لا تروق الهزائم ...
لكنك أبيت أن تصغي
ومكثت صامتا ،مضربا عن الكلام
وظلت عيناك شابحتين
تحدقان في نقطة عائمة في البعيد
تتابعان ذبالة
ظلت تدوي وتدوي
حتى انطفئت الى الابد
.....
أراك الان
-رغم هذا السديم الذي ذهبت لتتوارى خلفه
أراك مثلما كنت أراك كل يوم ...
في حجيجك اليومي من "أم البروم" الى المقهى
متأبطا صحف الصباح ...

لم تكن خطوتك على الارض خفيفةً ، مثل خطوة الطير
ولم تكن عينك على الخلق عابرة
مثلما لمسة ريح ..
كنت مثل كائنات الاساطير :
قدماك على الارض ثقيلة
تكاد أن تحرث الرصيف
وعينك ثاقبة
تكاد أن تخترق الجدران .
يقول لك الطاووس
حدق في بهائي
تقول له : أليك عني
ما أخفيته كان أعظم
..............
وداعا يا جاسم
يا كاتدرائيتَنا
التي أكلتها النيران  )
قـــــــراءة


التزامن في الشعر

في الشعر تكون زاوية النظر مفتوحة على أوسع مدى ، يلتقط الشاعر اللحظة الشعرية أنى حانت ،وتكون الجاهزية على أتم الاستعداد وفي توقد تام لتلقي أي حدث يمضي مع النسق الشعري لمشاركة واقع إنساني  يذهب به نحو عوالم رؤيوية  لتكون القصيدة  من تواشج المحلي مع الكوني ولولا اختزال التجربة والمعرفة لما عبرت القصيدة عن مجموعة الفيوض الشعرية  المتميزة و تحقق هذا  الانتاج الابداعي  المنسجم مع تساؤلات الحياة .هنا يطل علينا الشاعر كاظم اللايذ عبر شكل  يربط  المسافة الزمنية المحصورة بين الحاضر الآني والماضي القريب  الذي يبدأ من زمن الريادة والتحولات الى زمن التجديد والتغيير ،أما في البناء الفني فنراه يتعمد البناء الدرامي  وهذا ما درجت عليه بنية القصيدة العربية قديما وحديثا و عندما يكون موضوع القصيدة رثاء أي عندما تقيم محاور القصيدة علاقة متزامنة مع حادثة أليمة على التراث الفرنسي بشكل خاص والتراث الانساني بشكل عام فان التزامن بين احتراق الكاتدرائية  من سهوا والموت الانساني المفاجئ  قد لا يكون هذا التزامن مناسبا أو هو تزامنا نسبيا ، أما عندما تتحول الحادثتان الى  تعالق دلالي واشاراتي  في  نظام لغوي قائم بذاته  ضمن مسار النسق وكسره عبر تطابق وتخالف  مضبوط المسافة  لا تتعدى ما رسمته القصيدة من مثابات لذروة أوجدت لها هرما هندسيا فرضته مخيلة الشاعر عندما تشتعل الكاتدرائية وتجعل أهل باريس في ذهول وانطفاء المفاجئ للباشق من جهة أخرى ، وبين هاتين الحادثتين تأخذ البلاغة اللغوية في  ايجاز  الحدثين  في استعارة واحدة للدلالة عن الفقد الانساني والحضاري وإن الشاعر قد عمد الى استخدام الزقورات في عودة الى خلفية  الفقيد  فلا يوازي وجود الكاتدرائية سوى الزقورات لكي يتشكل التجاور المثير .

البناء الدرامي 

(في هذه الليلة ..)

منذ البداية  كان نوع التلقي من قبل الشاعر للحدثين  قد هيمن على  ثيمة القصيدة وقد عكس تأثيرهما  فكانت القصيدة شكلا من أشكال التفاعل الذي أنتج  مجموعة من الدلالات والاشارات وإن العلاقة الثنائية بين المفردات قامت على التقارب والتناسب أملاه جو القصيدة – المرثية فنجد في مثل هذه المفردات التي تعكس الحزن والاسى مثل :(مكفهرة . واجمة .مخطوفة . واجمة . محملين بالألم . . مفجوعين . النيران . مهمومين .مندحرين . منكفأ .لا تفجعنا . الانكسار . الهزائم . شابحتين . تذوي . انطفات . تتوارى ) بينما نجد ما هو غير مألوف من الاسماء والالقاب جاءت في الجهة  المقابلة مثل :( الزقورات .الباشق .قلب أسد .حجيجك اليومي .كائنات الاساطير . يا كاتدرائيتنا ) في مثل  هذه العلاقة الثنائية  قلما نجد ارتباط ،وفي السؤال عن العلاقة بين ( النيران و الزقورات .قلب الاسد والانكسار . كائنات الاساطير و تذوي ) نجد بان  البنية العميقة  أضفت على القصيدة بعدا آخر  وعندما تصل أي قصيدة الى هذه المناطق فهذا يعني  بان الشاعر قد أدخر لهذا العالم تساؤلات قد فرضه وجوده على هذه الارض وإن القصيدة الدرامية غالبا ما تطرح مثل هذه المركبات للتشويش على المفاهيم السالفة  وإن ذروة القصيدة هو نتاج  العلاقة بين  الموت المفاجئ والاحتراق سهوا  فهذه العلاقة لا تشبه  ثنائية  الخير بالشر والحب والكره  أي إنها تحمل زاوية ميل تنحرف باتجاه علاقة  أثرت على زاوية تلقي الشاعر .

الصورة الشعرية

وفي المسافات الفاصلة مابين التزامن تنبري الصورة الشعرية ضمن الحدث الدرامي للقصيدة في مشاهد ايحائية  عند الناس في باريس  هم يتلقون خبر حادثة احتراق الكاتدرائية  بألم وحسرة
(وسيذهب أهل باريس كلهم الى أسرّتهم
محملين بالألم
مفجوعين بكاتدرائيتهم ...
أمّهم التي أشتعلت بثيابها النيران ...)
والمشهد  اليومي لكاهن سومر وهو يغذي الخطى قادما  من "أم البروم " متأبطا صحف الصباح وبالمقارنة مابين المشهدين نجد بان الشاعر  قد ألمح إلى وجود اختلاف مابين المشهد في (باريس )والمشهد في البصرة  ( في المدينة التي هي ماءٌ ونخل  )وأن المشهد الباريسي كان فيه الوصف خارجيا ولا يخلو من تساؤل  لاهل باريس بينما تضمن مشهد البصرة  حوارا دار بين الفقيد والطاووس :
(يقول لك الطاووس
حدق في بهائي
تقول له : إليك عني
ما أخفيته كان أعظم )
وبما أن القراءة جاءت ضمن تحليل محددات التزامن فان المضامين في الصورتين  مضامين  غير متطابقة  وهذا يقع أيضا ضمن المنطقة المشتركة مابين الشاعر والقارئ في نطاق القراءة والاستجابة .

نسق البنى العميقة 

في ايقاع ساكن وبطيء تتنقل الكلمات بين الاسطر لتعبر على وطئة تراجيدية  تسيدت اللحظة الشعرية وأن هارمون القصيدة لم يخالف النسق العام للقصيدة التي جاءت في نسق علاماتي بين (أمّهم) و( الطاووس ) فان الشاعر أراد أن يدخلهما  في نسق يتعدى تلك المضامين لكي  تثمر عن ارباك وانتباهه توصل بالخطاب إلى أكثر اتساعا وبما أن الشاعر قد جرنا إلى منطقة الوحدات الثقافية فان البلاغة الشعرية سوف تدعونا الى اعادة قراءة القصيدة مرةً ثانية ً تجعل من هذا المقطع ( أمهم التي أشتعلت بثيابها النيران ...) يتعدى السهو في الحادثة  وأن قصيدة موت المثقف ليست  قصيدة مرثية فان هاتين الاشارتين يجب أن نعدهما ضمن البنى العميقة  للنص وإن كلاهما يشكلان قوس التوتر في كتابة القصيدة والسهم المنطلق تجاه تعرية وكشف المستور للحادثتين كتاريخ وأن الشاعر يرمى بهما الى القارئ كمشارك في أنتاج الحدث القادم .





تعليقات