رسالة اليوم العالمي للمسرح 2020 : حين يصبح المسرح ضريحا!

رسالة اليوم العالمي للمسرح 2020 : حين يصبح المسرح ضريحا!

لأول مرة منذ أحداثه لن يحتفل عدا المسرحيون في العالم باليوم العالمي للمسرح في المسارح التي ستكون مغلقة في كل مكان من العالم بسبب فيروس كورونا. لكن المعهد الدولي للمسرح لم يخلف تقليده في أصدار بيان اليوم العالمي للمسرح الذي كتبه هذا العام الباكستاني هاشم نديم وترجمتها حصة الفلاسي .
حين يصبح المسرح ضريحاً
شرفٌ عظيم أن يتم اختياري لكتابة رسالة اليوم العالمي للمسرح لعام 2020م، وأجد نفسي ممتنّاً وفي الوقت نفسه متحمساً لهذا التقدير الكبير للمسرح الباكستاني وباكستان نفسها من قبل الهيئة الدولية للمسرح، الجهة المسرحية الأكثر تأثيراً وتمثيلاً في العالم في وقتنا الحالي. هذا التكريم هو أيضاً تكريمٌ لمديحة جوهر، أيقونة المسرح الباكستاني ومؤسسة مسرح أجوكا وشريكة حياتي التي وافتها المنية قبل عامين. لقد قطعت فرقة مسرح أجوكا طريقاً طويلاً وشاقاً في مسيرتها التي ابتدأتها حرفياً من الشارع وصولاً إلى المسرح، ولكنني متأكدٌ من أن هذا هو الحال مع معظم الفرق المسرحية، فالطريق لم يكن يوماً سهلاً أو سلساً، والصراع موجودٌ دائماً.

أنا من دولةٍ ذات غالبيةٍ مسلمة، تعاقبتْ عليها الدكتاتوريات العسكرية وشهدتْ هجوماً مروّعاً من قِبل الجماعات الدينية المتطرفة، بالإضافة إلى ثلاثة حروبٍ مع جمهورية الهند المجاورة التي نتشارك معها بتاريخٍ وتراثٍ يمتدُّ لآلاف السنين. واليوم ما زلنا نعيش في خوفٍ من حربٍ شاملةٍ مع جارتنا وتوأمنا، قد تتطور لتصبح حرباً نوويةً نظراً لامتلاك الدولتين للأسلحة النووية في الوقت الحالي.

نقول أحياناً على سبيل الدعابة: “الأوقات السيئة هي وقت ازدهار المسرح”، فالأوقات السيئة تمنحنا الكثير من التحديات التي يجب مواجهتها والتناقضات التي يجب الكشف عنها والواقع الذي يجب تخريبه، وقد مشيت مع فرقتي المسرحية “أجوكا” على خيطٍ رفيعٍ لأكثر من 36 عاماً، وكان بالفعل خيطاً رفيعاً جاهدنا فيه للحفاظ على التوازن بين الترفيه والتعليم، وبين البحث والتعلم من الماضي والاستعداد للمستقبل، بين حرية التعبير الإبداعي والمواجهات الجريئة مع السلطات، بين المسرح الذي يهتم بالقضايا الاجتماعية والمسرح الربحي، بين الوصول إلى الجماهير والحفاظ على الإبداع والريادة، للوصول إلى هذا التوازن، على المسرحيين أن يكونوا سحرةً أو مشعوذين!

في باكستان، هناك فصلٌ واضح بين ما هو “مقدّس/ حلال” وما هو “مدنّس/ حرام”،  فلا يوجد مجال للتساؤل الديني فيما يتعلق بالحرام ولا توجد إمكانيةٌ للنقاش المفتوح أو الأفكار الجديدة فيما يتعلق بالحلال. وحقيقةً تَعتبِر الأنظمة المحافظة الفنَّ والثقافة خارج حدود القداسة والحلال، ولذلك فإن ساحة الأداء المسرحي دائماً ما كانت مليئةً بالعقبات والحواجز، حيث يتوجب على المسرحيين أولاً أن يثبتوا أنهم مسلمين صالحين ومواطنين ملتزمين وأن يحاولوا أيضاً إثبات أن الرقص والموسيقى والمسرح أمورٌ “مباحة” في الإسلام، فقد تردد عددٌ كبيرٌ من المسلمين الملتزمين في تبني الفنون الأدائية على الرغم من كون عناصر الرقص والموسيقى والمسرح جزءً لا يتجزأ من حياتهم اليومية، وانبثقت بعد ذلك ثقافةٌ فرعية دمجت الحلال بالحرام على خشبة المسرح.

خلال الحكم العسكري في باكستان في الثمانينيات من القرن الماضي، تأسس مسرح أجوكا على يد مجموعةٍ من الفنانين الشباب الذين تحدوا الديكتاتورية من خلال تأسيس مسرحٍ يتّسم بالجرأة الاجتماعية والسياسية، وفي بحثهم عمّا يعبّر عن مشاعرهم وغضبهم وكربهم وجدوا ضالتهم في شاعرٍ صوفيٍّ عاش قبل نحو 300 عام وهو الشاعر الصوفي الكبير بلهى شاه، حيث أصبح بإمكانهم الإدلاء بتصريحات متفجرة سياسياً من خلال أشعاره، متحدّين بذلك السلطة السياسية الفاسدة والنظام الديني المتعصب. فقد كان بإمكان السلطات أن تحظرنا أو تبعدنا ولكن الشاعر الصوفي المحترم والمحبوب بلهى شاه كان خطاً أحمر! وكلّما تعمقنا في دراسة سيرته، وجدناها مليئةً بالإثارة والأفكار الثورية كشعره تماماً والذي عوقب بسببه بالفتاوى والنفي في حياته.  بعد ذلك، كتبتُ مسرحية “بلهى” وهي مسرحية عن حياة ونضال بلهى شاه، كان “بلهى” هو الاسم الذي عرف به الشاعر من قِبل جماهيره وتابعيه في كافة أنحاء جنوب آسيا، وقد كان من الشعراء الصوفيين البنجابيين الذين تحدوا بلا خوفٍ سلطة الأباطرة والرموز الدينية الغوغائية من خلال شعرهم وممارساتهم، فكتبوا بلغة الشعب وعن تطلعات الشعب، ووجدوا في الموسيقى والرقص وسيلةً للارتباط المباشر بين الإنسان وما هو أسمى، متجاوزين بازدراء كل الوسطاء الدينيين الاستغلاليين. وقد تحدى هؤلاء الشعراء الطبقية والفروق بين الجنسين ونظروا إلى كوكبنا الذي تتجلى فيه عظمة الخالق بعين الدهشة.

رفض مجلس الفنون في لاهور النص المسرحي متعللين بأنه لا يصنّف كمسرحية بل مجرد سيرة ذاتية. ومع ذلك، عندما عرضت المسرحية في مكان آخر وهو معهد جوته، رأى الجمهور وأدركوا وقدّروا الرمزية في حياة وفي قصائد شاعر الشعب، وارتبطوا وجدانياً بسيرته وعصره ورأوا مدى التشابه مع حياتهم وواقعهم.

في ذلك اليوم من عام 2001م، وُلِد نوعٌ جديدٌ من المسرح مزج بين موسيقى القوالي الروحية التعبدية والرقص الصوفي، وبين إلقاء القصائد الشعرية الملهمة وترانيم الذكر التأملية التي أصبحت كلها عناصرَ في هذا اللون المسرحي الجديد. وفي نهاية العرض المسرحي، اعتلى جماعةٌ من السيخ – الذين كانوا في المدينة لحضور مؤتمر بنجابي وحضروا المسرحية – خشبة المسرح واحتضنوا الممثلين وقبلوهم وهم يجهشون بالبكاء، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتشارك فيها السيخ مع البنجاب المسلمين خشبة المسرح بعد تقسيم الهند في عام 1947م والذي نتج عنه التقسيم الطائفي لمنطقة البنجاب، فقد كان بلهى شاه محبوباً من قبلهم كما كان محبوباً من المسلمين البنجاب، فالصوفية تتجاوز الانقسامات الدينية والطائفية.

أعقب هذا العرض المسرحي التاريخي نجاحاً كبيراً في الهند لمسرحية بلهى شاه، بدأ بجولةٍ مذهلةٍ في الجزء الهندي من البنجاب، وعرضت مسرحية “بولهى” في أرجاء الهند 

تعليقات