صديقتي ( ‏ق.ق)

بقلم : الناصر التومي 


بدت ( ق ـ ق) عصية، علمت أني أعشقها، فهي حبي الأول، أتحايل معها،
ألاعبها، سهرت معها الليالي الطوال إلى حد السهاد، وأكون في ذروة سعادتي
وأنا أنهي سفر تكوينها وألبسها أجمل شكل يناسب فتنتها، لكن الغيرة أصابت منها
مقتلا، لمّا شعرت أني ملت إلى (ر) صفيتها ذات البحر المتلاطم حيث أصبحت
أقضي أغلب الوقت معها.
الحقيقة أغلقت الأخيرة علي كل منافذ النظر إلى غيرها، وأفلحت في ذلك إلى حد
بعيد، وجدت فيها متسعا من الخلق والتكوين، أبحر فيها كيف أشاء مستغلا كل
الفضاءات والأزمنة والأمكنة، و الأرهاط المتعددة وأفعالا مختلفة، أحسست
بالارتياح، كرهت ضيق الأمكنة والتفرد بالذات والرأي، وأهفو إلى أكثر حرية
وأكثر انطلاقا وأكثر حشدا وانفعالا وصراعا.
رغم عشقي لمحبوبتي الأولى ذات النفس القصير فقد كانت تتعبني بتكبيلاتها
وشروطها ووحداتها، فتشكيلها الصغير يتطلب تركيزا أحيانا يفوق الطاقة فأنزلق
متمردا عليه، وأخرج عن قواعده وأفسد الشكل والمضمون والخلق، فأضطر إلى

3
تمزيق الكيان وأتحسر على الليالي التي قضيتها في تشكيله، و لما رأت مني
عجزا عن الإخلاص لها والإبداع فيها تنكرت لي وبادلتني هجرا بهجر.
ولعل خطئي الأكبر كمن في تسرعي بإعلان فراقي من حبيبتي(ق ـ ق) على
الملأ، ولعلها رأت ذلك نكرانا مني للجميل، فهي الذي عرّفت بي لما كنت مجهولا
وطورت ملكة الإبداع لدي وأنا في أول محاولاتي بأن أطلعتني على عالمها من
خلال حكايا مثيلة، ودفعت بي إلى المشاركة في بعض الملتقيات وقراءة ما تيسر
منها، وعرض تجربتي فيها، لكن خطأها الأكبر تمثل في تقديمها لصفيتها لي(ر
)، و دربتني على خوض غمار الاشتغال فيها، و سمحت لي بتخطي حدودها
وضوابطها لأقع دون أن تدري وأدري في هيام صفيتها فألازمها زمنا أضاع
خيط الاتصال بالمعشوقة الأولى (ق ـ ق).
لم يفدني الندم، ولا العجز عن إعادة التجربة والمحاولة، وفي قراري لم أقتنع
بكل ذلك، ولا الآخرون، لكن المحاولات كلها باءت بالفشل، أضع العنوان، أخط
بعض الأسطر أو بعض الجمل، تبدو لي ساذجة مقرفة أبعث بها سريعا إلى سلة
المهملات، أسمع ضحكاتها الساخرة من بعيد، كلها تأنيب وعتاب، وهيئ لي أنها
أوحت لي بالعودة إلى العشق الأول، فدونه لن أفلح. انتبهت مذعورا متسائلا:
كيف يكون ذلك بعد فراق دام عقدين من الزمان، وماذا أفعل بسطوة(ر) وهي
تحتويني في صحوي ومنامي، لا تترك لي منفذا لغيرها، كلما أنهي تشكيلا تكوينيا
حقبة وتاريخا وزمنا ورهطا، ترمي بي بين يدي أمثلة وأشباه فأغرق في ثنايا
الخلق، وهي جبارة، متسلطة لا ملجأ من خلاصها إلا بمعجزة.
بدا لي أن حبيبتي (ق ـ ق) رغم بعدي عنها لعقدين كانت على علم يقيني بشغفي
بها، وعلى بينة أن الحيلة فقط هي التي تعوزني للتخلص من هيمنة حبائل صفيتها
(ر) إلى حين، وأوليها اهتماما وتركيزا يسمح لي بالعودة إلى الحضن الأول.
في البداية تظهر في اليقظة في أي صورة في خلق مشهدي، وفي أية فكرة
طريفة ومعنى سام أو ساقط، أحاول تشكيل الصور والمعاني والأفعال لاستخراج
منها المثال فلا أقدر، تظهر في البداية مؤثرة خارقة لكن ما إن أسلط عليها مجهر
الإبداع حتى تبدو مسخا. أراها في الأحلام وبين سباتين فاتنة، حتى إذا ما أفقت

4
وأردت رسمها وضبط حدودها وإعجازها تنفلت، تهرب بعيدا في الهوة السحيقة
وقد امحت معالمها وزال سحرها.
تتالت الأيام والأسابيع والسنوات وأنا في صراع لكسب ودها من جديد، لكنها
اختارت إرهاقي بمراوغاتها،عاملتني بجرمي، اقترفت هجرها فبادلتني نفس
الفعل، وهي بذلك تمعن في تعذيبي ليس تنكيلا بل تدريبا لكي أعود إليها متماسكا
مسلحا بشروطها مخلصا، أحترمها كجنس إبداعي، أمنحها من الوقت و التركيز
الكثير، أصبر عليها، أتحمل تشكل التكثيف، وتسريبات الرمز والبحث عن
الخاتمة المفاجئة، وإن تمردت على شروطها فبحدود غير مجحفة، فلا أخرجها
من إطارها فهي معتزة بجنسها تمقت التمييع والمسخ.
بدا لي الأمر صعبا في البداية، لكني لم أيأس، بحثت عن مواصفات مكتملة
تصلح للتجربة، مواصفات مثالية لجنس مبدعتي، وحدات المكان والزمان
والموضوع، الحبكة، التكثيف، التصعيد الدرامي الخاتمة انفراجا أو انفجارا،
التخلي عن الانزلاقات والأخطاء القديمة في التجارب السابقة، والتي لم ينج منها
أحد ولا حتى الجهابذة الكبار والمنظرين أنفسهم.
هداني الحفر في الذاكرة إلى أحداها، رافقت مسيرتي دون أن أجد لها
المواصفات المثلى لتقديمها في أبهى فكرة وحلة قشيبة، كانت تزوغ عني وتزورّ،
لا أجد لها تشكلا مثاليا، فقط حدث بسيط لكنه عميق في دلالته المأساوية، وهي
سمة كل إبداعاتي لا أستطيع الفكاك منها. أغلقت نافذة رقن الرواية الجديدة التي
لم تكتمل حتى على الورق، أغمضت عيني عن استفزازات أصدقاء الفايسبوك
المعارضين والمشاكسين، فتحت صفحة جديدة في الحاسوب، كتبت عنوانا ثم
عدلته، بدا لي مناسبا، بدأت الكتابة بسلاسة دون تعقيد، وسوس الخاطر لي
بالإخلاص لها ولن يتم هذا إلا بعدم التفكير في غيرها، والالتزام بضوابطها
وشروطها، الزمن لا يتعدى طلعة شمس، المكان لا يتعدى مساحة مائة متر،
الشخصية واحدة لا غير في صراع مع الحاجة، لينتهي بانفجار أو انفراج.
أنهيت القصة في توقيت وجيز بدت لي معشوقتي ( ق ـ ق ) متهللة الأسارير
متسامحة رغم هجري لها طال عقدين 

تعليقات

  1. ذلك شيء من حيرة المبدع وشغفه بالقصّة القصيرة ثمّ بالرّواية .. وأنت مجيد في كتابتهما معا .. فلا موجب لغيرة (ق ق) ولا لاستئثار (ر) بك وبقلمك المبدع .. المهمّ أن نكتب ونضيف ...

    ردحذف

إرسال تعليق