قصتان في قراءة ‏ومقارنة

قصتان في قراءة ومقارنة 

كتابة : سالم محسن

 قصتان قصيرتان في  المجموعة القصصية( اتبع النهر )* للقاص والروائي المبدع محمد سهيل احمد . تحتوي المجموعة على ١٣ قصة قصيرة . تقع ٨ قصص في القسم الأول وفي القسم الثاني ٥ قصص ، فقد كانت قصص القسم الأول تحتوي على موضوعات محلية ومن الواضح فإن هذه القصص المختارة  كتبت في سنوات متفرقة مابين عام ١٩٦٦ إلى عام ٢٠٠٩ اما قصص القسم الثاني فقد كتبت بين عام 1994 الى 2002 في الاماكن - عمان - بنغازي - سرت - السودان . فقد وقعت القراءة والمقارنة بين قصتين ،فالأولى ( اتبع النهر ) نشرت عام 2008م  والقصة الثانية تحت عنوان (شوق لا يخرق) نشرت عام 1966م والغاية من هذه  المقارنة هو كشف التحولات الخارجية والداخلية في القصتين والوقوف على الجوانب الفنية للنص باعتباره وحدة ثقافية اختزلها الكاتب في لحظة ابداع متميزة.

  شوق لا يخرق 

تبدا القصة (بعد قطيعة زمنية استمرت 6 سنوات يأتي خبر من قبل مجموعة ما بان  والد حسن العنيد  يحتضر في القرية وفي طريقه  للذهاب اليه يمر بالدكاكين وعودة الشحاذ ويدخل الحانة فيلتقي بسلمان ومحسن فهو لا يريد  احدا ان يعرف بان والده يحتضر . يقترض من محسن دينارا وسيجارة  ويأخذ سيارة حمودي وعندما يصل الى القرية يجد ثلاثة في المقهى ، حنق على احدهم ،ثم يصل الى كوخ ابيه الذي يعمل صيادا و يملك زورقا كثير الثقوب .يفارق والده الحياة قبل وصوله بقليل كما اختبرته عمته .يتذكر بدرية ثم يعود الى المدينة )  هذه القصة تنتمي الى مرحل ما قبل نكسة حزيران بعام واحد 1967م وبإمكاننا ان نجد تأثير الافكار الوجودية والعدمية والعبث من خلال حديث الحانة بين  توما (صاحب الحانة )وسلمان ومحسن( زبائن)  وان الطريقة المكثفة صارت تتناسب مع اجواء الحيرة والتخبط لدى البطل وان اغلب تنقلات القصة غير إرادوية يحركها الهاجس والتوقيع والحظ وكذلك هذا ينعكس  عبر العلاقات بين الاشخاص و الريف مع المدينة  والابن مع الاب والبطل مع بدرية انها اجواء مهلوسة . شخصية حسن ضعيفة متأثر بشخصية محسن ويتمنى أن يدرس علم الاثار ..! ان علاقات التناقض واضحة  بين توما مع جدار الحانة المتورم  و حمودي مع سيارته فتأخذ هذه الموجودات تعابير ضمن رؤية الحضور والغياب والوجود والعدم وان دالة حب المعرفة والدراسة تعبر على ان هذا الكون يعيش تحت ارهاصات التحول في موجوداته  وان ذهاب البطل من المدينة الى القرية  لحضور وفاة والده من ثم العودة مع ورثه لزورق الوالد المثقوب (اعراب كلمتي  عاق  وهارب ) يعبر عن علاقة التناقض بين السيارة التي جاء بها وقارب الوالد المتوفي للتو وان القصة  عبارة عن عصف ذهني في موضوع القطيعة والعزلة لكونها منفتحة على علاقات مبتورة الجذور فأساس مشكلة حسن تكمن في العلاقة مع بدرية والتي ستؤثر على علاقته مع والده وبموت الاب فان العلاقة بين العلة والمعول والدال والمدلول نسبية تخضع الى معايير التحول والتغيير ولا ثبات في خضم هكذا العلاقات الغامضة . 

اتبع النهر 

( جولة نهرية لرجل وزوجته في بلم عشاري . بدأت هذه الجولة  في نهر متفرع من نهر المدينة الكبير  وتنتهي  بزورق اخر  اخف قشرة واصغر وزن رغم ذلك لا يتكمنا من الاستمرار فيتوقفا عن السير بعد تحول هذا النهر الى ذنائب وسواق وخوارير وسط  بستان مهجور فيقول لزوجته : لنغادر الى البر ..أحسب أن النزهة ..نزهتنا قد انتهت! ) ومن خلال هذه القصة  يعبأ  القاص الجولة بمشاهد  لمخلفات الحروب التي اثرت على هذه المنطقة المعروفة ببساتين النخيل الكثيفة  والانهار الصافية  وفي متابعة ومراقبة  لهذه الجولة عبر تكثيف اللغة الاشارية(تحت هذا الجسر كدت أن اموت غرقا) ( اشتراه احد اثرياء الحروب ) ( كيف كنا ) تحت مهيمنة الخراب فهو يستخدم قدر ما يستطيع  ليصب جام غضبه في بعض الكلمات ليخرجها من دلالتها التقليدية الى اكثر ايحاء كما في كلمة  (نزهة) وهي لم تكن نزهة لرجل وزوجته او للترويح عن نفسيهما بل هي نزهة لحروب قادمة ومن نوع اخر  حسب ما تعكسه كمية المخلفات المتروكة في مجرى النهر  وما مغادرتهما مياه  النهر  والاتجاه نحو البر الا رغبة للتخلص من الاماكن المغلقة . فقد ترك القاص العديدة من علامات الاستفهام التي تعبر عن الاحباط والاحساس بالاغتراب من مدينة الطفولة والصبا التي كانت  جنة عدن (استعادة عدن مضاع )..

مقارنة : 

في قراءة تاريخية للقصتين سنكتشف بان النص الادبي  قادر على ان يضع الملامح الانسانية  في وعاء واحد ويصهر الشكل مع المضمون عبر وضع المتناقضات في نسقها  ضمن قوانين التحول.  في كلا القصتين يظهر علامة مشتركة في المهيمنات للزمان والمكان وانسحاق الذات الانسانية وانمحائها عبر هذه الحركة التاريخية في حكاية ضمن مجموعة من الثيمات وضعت الاشخاص في احاسيس ومشاعر مضطربة تجاه  النوازع الذاتية تحت ضغط الخارج ،اما عن الجانب المحلي والكوني فكلاهما قد انصهرا كالجزء من الكل والكل من الجزء وكل ما هو ثابت ومتحول انما هو نسبي وان الابطال فيهما لا يمتلكون  تصورات عن الماضي السحيق وعن  الغد القادم  ما يجعل النص الادبي علامة استفهام ولا يقدم اجوبة جاهزة فهو يضع قوانين التناقض امام الاخر بصدق ومن دون زخرفة . هناك  اسلوب يتميز به القاص في استخدام  الحوار وتنامي الحدث والتوازن في الوصف ،فالحوار يشكل عمقا اخر لمستوى تفكير الشخصيات واما تنامي الحدث فهو من الوحدات السردية  التي تستخدم بشروط الانتقال والتحول ضمن المكان والزمان ،اما التوازن في الوصف يلائم القاص الوصف الخارجي والداخلي عبر لحظة واقعية خالية من التشويش .      

• المجموعة القصصية (اتبع النهر ) للقاص والروائي محمد سهيل احمد  من اصدارات اتحاد الادباء والكتاب في البصرة لعام ٢٠١٠

تعليقات