النُّـــــــــــــوبة: "الإشباعُ ":إيقاعٌ متعدّدٌ

النُّـــــــــــــوبة: "الإشباعُ ":إيقاعٌ متعدّدٌ      

    منذر العييني         
  
قد لاتفي هذه الورقة في الإحاطة بكلّ ما يمكن أن يؤطّر العمل الفنّي الدّرامي في سلسلة "النّوبة" ولكنّها محاولة للتّتبع والتقفّي للخلجات الشعريّة أو قل كيف للشّعر أن يلبش لبوسه الحيّ وجها لوجه أمام الكاميرا ليُعرّف نفسه أمام الملإ  ليؤسّس  إيقاع الحركة في ميدان التّصريف وعلى الخشبة وبين الأزمنة والأمكنة والدّوران نسق يُلعّب الشّخوص والأحداث .
قد تبدو هذه الورقة مسارا للتّداعي الحرّ لا يحكمها حاكم ولكنّها قراءة تضبط خطوتها وفق نسق وُلد من دهشةٍ ليست مجانيّةً ومن رَدّةٍ عميقةٍ مسّت التّاريخَ والذّاكرة ودقّت في الدّاخل أجراسا حميميّةً تكاد تخبو بفعل العولبةِ والنّمطية والنّسيان.
لم أنتبه أوّلا للحقل أو للحفل إلاّ من خلال دعوةٍ من إبنتي وإبني والرّأي شبابٌ في سؤالٍ مُشكلٍ وقد بدأتُ الإنتظار للفرجة والمشاهدة. "ما النُّوبةُ؟ ما النَّوْبة؟"حينئذ تداعت لي كلّ الأروقة والورقات بالسّهر والحمّى وهي تتولّى أمرَ إجاباتٍ منكسرةٍ منحنيةٍ إمضاءاتٍ وعقودٍ.
بقيت الحالة مفتوحة والنّظر يقصرُ ويطولُ والمعاني في علم المجهول غير أنّ تدفّقا إحاليّا جعلني أستفيق على تاريخيّةِ حدثٍ جرى في بدايات التسعنيّات من القرن المنقضي قد يكون مدخلا للحلقة في ردودٍ عائمة وأنا أتخطّى باب الإجابة بخبرة سطحيّة قد يَضحك منها "قوقل"  والشّباب الّذي برفقتي .
بدأ العرض والشدّ على مهله والموسيقى رجراجةً تُدوّر حالةً عصيبةً على سلّمها صعودًا صعودًا شيئا فشيئا ومن ثمّة يبدأ الإشباع مشروعه ومعه يبدأُ البروز. "النُّوبة"  هو عنوان المسلسل التلفزيوني في خطوته الثانية والباب يُفتحُ من موسيقى شعبيّة "بومزويد" بنصّ شعريّ تتعاضد حركاته إشباعا صارخا من خلال وحداته الصّوتيّة وتتبادل الأدوار سكونا تارة وتضعيفا تارةً أخرى بين صوتين من حنجرتين تاريخيّتين حيّتين مُشْبَعتيْنِ باللّيل والضّوء معا يؤسسّان اللّحن بين الأسطر والفراغات هما  لِ"حبّوبة" و"بوشناق"يصعدان  بمنعرجاتِ الكلمات ومنحنياتِ المقام "الطّبلْ يِدوِيي والشّطيحْ يدّوّااخْ ......" فاصلة عاى باب السّتارة تنبئ بالإثارة على باب المدينة والأقوس تفتح أعْيُنَها من مسلك إلى آخر وهي تحومُ تهومُ على غير عادةٍ صارخةً عاليةً نابيةً بالمستور.والمفضوحُ من الأدوار عاملُها المعادلُ والمعدّل في الموضوع  والأداء والإعلان والإعلاء تُدْبِكُ إيقاعها حتّى يقف السّعيُ عند نهاية الأغنية وقفا جماعيّا فيه ما فيه من حصيلة النّوازل على صورة شاخصة في المرآة قد تكون بعضا ممّا رصدته الكاميرا على طريق التسعينات وهيَ تطبقُ الباب بإحكام.
الحاضرةُ حاضرةٌ بقوّة الإشباع أيضا ليست ديكورا أو لَمعانًا خافتًا يَظهر عبر ميكياج الأرستقراط من زُخرف باردٍ على عتبات المداخل عند الخطبة والأفراح أو عند النّدبة والأتراح. تشنّجٌ ماضٍ هُوَ حَكم العلاقاتِ وحَدَّ شفرةَ المفرداتِ وهي تجرح الأفواه حين ترمي به الآخر "المكشاش" والقصد معنىً لعبتهُ الإدراك. والصّمت قصدٌ أيضا إشباعٌ ترافقه موسيقى التّصوير والتّدوير وصراعٌ يقتفي نَوْباتِ الشّخوص يحْتفي يخْتفي على المسرح والمخرجُ يضحك عبر فُوّهة الكاميرا. هل كان بدٌّ من الرّكح أن يُشبعَ ساحةَ السّينما؟ أن يَشْخصَ الحدثُ بين الفواعلِ وهي تلعبُ دورها في السّاحةِ  والحركاتُ تَصْفَع الفضاء تُخرج الميّتَ من الحيِّ والحيَّ من الميّتِ خلقًا آخرَ على الخشبةِ وأمام الجلاّس.   
تدور الحكايات على الوتيرة تنُوبُ فراغاتِها  مقتطعاتٌ من الأسماء أثّت نُوبةَ التسعينات على بطْحاء قرطاج. مقتطفات رسّخت في الذّاكرة ملامح القوّة في التّعاضد والتّلاقح الثّقافي بين المدينة والرّيف عبر سطور الأزمنة المتعاقبة. أسماء جدّدت إشباع الإيقاع بالفواصل التّي نحفظها نبضًا جارفًا وهُويّة صادمةً صادقةً لتونس الحضارة تونس الإخاء ومثّلت توزيعا رائقا يُغدق على البَيْعةِ تجديدا قد أنار طريقا إلى المعاني التّي توّلدُ مسار الحلم حلم المجموعة من عملٍ كهذا يؤرّخ نفسه بنفسه في ظلمة العادةِ والتّنقيطِ.  
النّوازع والفوازع في الحوارات معادلاتٌ جدليّةٌ وفصولٌ من حركاتِ التعلّم. والدّرس ليس بالمجّان حِكمٌ وأمثالٌ طروس غارقة وشروح غامضة إيحاءٌ كاشفٌ وعناقٌ شفّافٌ والخطاب رَبْطٌ حيُّ يَعْصُمُ على التُلّهِ والدّهماء.  لعبٌ طازَجٌ يخرق الطّبيعة لتنال منه الثّقافةُ سرّها الأعلى توريةً وإيماء. تلك حركة التنفّس الكبرى لعالم"النوبة2"إشباعُ لا يبيع نفسه للّذي يجيء.أفيقوا من سباتكم أنصتوا يرحمكم اللّه إسمعوا وعُوا إنّه الواقع  يسحَر الآن بفتنته التونسيّة. دون مِراء يطلعُ المشهد من الصّدفة شاهقا عاليا لا نعرف وعيَهُ أو وعيَ مخرجهِ إلاّ من خلالِ الدّم والأصداء ولكنَّهُ يولدُ خفّاقًا نكادُ ننسى أنّنا في العشرين من القرن الواحد والعشرين. والمشهديّة مشدودةٌ بوتر القوس كلّما آنطلقت طارت جنّحت بنا إلى طقوس أخرى تولّد فينا الدّمع والضّحكات  تَفْرِقُ تَفرِقُ من شدّةِ النّضجِ .كلّ شيء بمقدارٍ.هنا يحترف كلّ شيء يضبط نفسه ويَسيب في متاهته. لحظتان متناغمان تقتطفان من العُسرِ عذوبة الانتصار ونُدوبَ الولادات. لم تُسدَل السّتارةُ بعدُ والتّداول بين الشّخوص بمعيارٍ. نحن لا نزيد الماء   لا نزيد الدّقيق .أربعةٌ وخامسهم عبد الحميد تكتكوا النّقاط والأقواس وما يدور في الجهر والأنفاس حواراتٍ نغّامةً فهّامةً قد مثّلوها في الحجرة السّوداء قبل أن ترصدها بومة المفراس  بالشّخوص المولودةِ تارةً والموؤدةِ تارةَ أخرى وكلّها أبطال إمضاءات داكنةٌ شامخة وهندسات محكومة بالكوس والفرجار غير أنّ لكلّ منها ضياعُها الأعمى حتّى تُبدع وشمتَها المخصوصةَ وزُرقتها العاتيةَ.ولامعنى للإقصاء في حذر للعراك قريبٌ تنبئُنا مشقّةُ التتبّع أو لذّة الإصغاء ونحن بنو هذه الأرض من ربوعها الناتئة إلى جدرانها الملساء لا نهتمّ كثيرا للقاف والقاف تتبدلان الأدوار تتبدّلان في الصّحن  نغمَةً بِنُغيْمةٍ قفلةً بقفلةٍ بين البَلْديّةِ والبَلاديّاتْ ذلك إيرادٌ آخرٌ أخرجته الصّيحات والمواويل والرّذاذ المتطاير من أعين الشّخصيات .
كيف للألوان أن تدخل في العَرْكة والعريكةُ ألواحٌ من مسرح العرائس قماشاتٌ وأجنحة حركاتٌ وأشباح. والحبكة أدعيةٌ وأقدارٌ نتوءاتٌ مدويّةٌ تتعالى بين خيوط الصنّار ."يا اللّهُ يا كريمْ".هل نما اللّونُ هل غدا حركةً هل فجرَ الصّبحُ؟  لتُعلَّقَ الأصواتُ على أضوائها وتُصلَبَ على أخشابِها الأغبرةُ والومضات؟ تصعيدٌ مكعّب للموشور والصّفائح تعلو وتنخفض في الوجوهِ والأقْفيةِ تصريحا في الإنارةِ أضواءً تخفتُ وتشعُّ خطابا تجهر به السّيمياء  تماما مثل سماءٍ كلاميّةٍ تمنحنا الدّلائل والإعجاز. هي تشييعٌ للعين وهي تعبر مضايق الأمكنة والأزمنة وقد آنزاحت عن المألوف .أضواءٌ تتلمّس خدودَ السّقائف والممرّات وهيَ تلوّن بالفحم والطّبشور ما يخدش الحياء شيئا ممّا ترسّب في الماضي أو ضحكا داكنا يُسعَفُ به الرّائي  أو سرحةً في ربوعٍ مجازيّة ممّا ينبئ بالتحقّق والإجراء إغراءًا جريئًا لايَنبُت إلاّ في الحوشيِّ والمُنْبتِّ . وتصبغ بالحنّاء أو بخيط الشّمس ما يبعث في النّفس شيئا من طمأنينة هذا الفَناء. أضواءٌ تحدّق كثيرا  في الرّقص لتُبرِزَ الخطيئةَ شريفةً خرقاء تتناور تتناور تتناوب تتناوب والسمُّ أسودُ خلف الجدران. رقصٌ ملوّنٌ والأيادي عيون حمراء تشرح للنُظّار هذا التفسّخ هذا المجون هذه الطّقوس الزّرقاء حول النّار وحول العار. عريٌ يلبَس طاقةً جهنّميّةً لا يؤمن بالدَّيْنِ والخلاصُ بالحاضر حاضرًا دمويًّا نشوءًا وآرتقاءًا. لعبةُ الألوان والأضواء حجبٌ مدويّةٌ تقرعُ الأعين والآذان والمتلقّي على مهله يرشف الأحداث لا ينتبه إلاّ والختام يُطفِئُ أو يُطفَئُ نُمُوًّا هادئًا تَرْكحُ أو تركعُ معهُ عاصفةُ الفصلِ .
جروحٌ تنفتحُ صيّاحةً تلكَ أسئلةُ الرّاهن على ألسنة المجموعة والشرُّ خيرٌ والخير شرّ مَسْعَيَتان ومطرقتان تبنيان وتهدّان والشّرح لا ينتظر الشّرح يكفي من القلادةِ عقدُها حتّى تنطق الصّورةُ نَوْباتٍ نوْباتٍ بعيدا عن التسْييد والتقييد جنونا بجنون تَطيّرٌ بالنّموذج والنّمذجة والقالب والنّظريّة .نَوباتٌ تونسيّةٌ وهَبالٌ وَحْلٌ لايقدُّهُ إلاّ الشّعراء وقد خبروا تراجيديات صوفوكل وحكايات هوميروس.
مدٌّ مزاجيٌّ يطفحُ كيلُهُ في الأعقاب والحكاية دائما معلّقةٌ تبدأ من حيثُ لا تنتهي أبدا. تُشبِعُ ولا تشبَعُ. حلقةٌ بدائيّةٌ تاكلُ منشديها وتضحكُ من الزوّار إذْ تَغْنَمُ تَنْعَمُ بالحضيض ولاّدَ شعر وأغنيةٍ ولاّد ركح وسينما.  
 

والإشباعُ فعلٌ رسوبٍ روافدُ ومجرّات واللصُّ لصٌّ إذا ما أنكر وأجاب وحفّل الإيقاع وهيّأ للإتّهام متّكأً وإيهابا وحزَّ المفاصلَ عند المحراب ثمّ أغمض وأشار ودلَّ وآستدلَّ جدَّ وجادلَ ثمَّ أوصل السّارق للباب والعدل واقف بين يديه ردهةً بردهةٍ ودورا بدوارٍ .عَوْدٌ جارحٌ للمونتاج والرّحمةُ "لا".مقصٌّ لاعبٌ ولعوبٌ يقضي على الشّوائب و الأظفار حتّى تزهرَ النّيران ومن بعدها ينشأ المحرق والطّواف حوله فرجةٌ ونثارٌ تطهّر جارف كاتارْسيسٌ وقيام . وهو يضحك ويتضاحك  من شدّة الإيهام.
ما النُّوبة؟ما النَّوبةُ ؟سلسلة أفصحت بصوتها العالي عن قدرات الممثّلين شخصيّاتٍ حقّةً كسّرت أفق الإنتظار جيلٌ يقدحُ أضواءهُ على مسار الأقنعة ببدايةٍ مشرّفةٍ معرّفةٍ وجيلٌ يقدحٌ أشفارهُ ثانية ليصرخ في وجه العالم مُتحرّكا في وجه هذا السّكون. جيلان ينتفضان ثمّ يحتكمان للمعنى يؤجّج المعنى يفتّح أشفاره على فنّ السّينما وهو يلعقُ عرقه بعد التجربة والتسفار.
يمكنُ نعم يمكنُ أن تتخلّق أعمالٌ مثل "النّوبة " والرّوايات كثيرة والتّاريخ فسيح فقط علينا أن نخيطَ ونلبس أن نحدث خللا ما في الطّريقة والمسار حافلٌ بالوقائع أريافًا ومدائنَ والقيامةُ يعلنها الشّعر دائمًا يتلوّن ليأخذ الشكل والحركة والسّمات وقد بانت في هذا العمل بُنًى وتراكيبَ متغيّرةً والإيقاع إشباعٌ رغبةً في الإيناع والإقناع ومن يقصدْ فَلْيقصدْ دارًا كبيرةً تلكَ تخميرةٌ الختْم والنّهاية تقفل عالية كعادتها في نوبة بوشناق .
لاضير أن تستقيم القصيدة مدّاحةً أُسْوَتها على مدار إيقاع الحكاية والوصلات عزف ينحرُ ختاما صاعدا تدويرهُ الثأر يغلي على ناره والموسيقى بُومزويدْ في أزقّة سِويِقة والرّوائح دوّاخَةٌ عاليةً في سماء الإشباع.
قراءةٌ أصغت للحالة وآلتفتت للشّعر تعريفا عميقا في مجرّة الفنّ ودينامو كلّ إبداع فقط علينا ان ننبذ الذّات ونعتبر بالتجارب . عمل يجعلنا لا نقنع بما دونه هكذا هي الحياة دالّة بدالّة والنّوباتُ في سياق السّبق

تعليقات