محمد صالح بن عمر رفيق درب الطليعة 2

بقلم: احمد حاذق العرف

4

بقطع النظر عن مفهوم الكتلة ، والتكتل بشتى مظاهره وأشكاله ، فان الطليعة هي بالأساس طرح جمالي/ معرفي / ايديولوجي مغاير 
ومخالف ومختلف في التصدي الجذري للراهن والسائد ، وخلخلة ما استقرت عليه الأنفس والعقول، واستفزاز البنى الادراكية والذوقية وفتحها على توقعات غير متوقعة.
على هذا الأساس يمكن الاقرار دون تردد بأن حركة الطليعة - منذ أن رفع عزالدين المدني راية التجريب وتحمل تبعاته : الحملة الهوجاء التي أثيرت حول نصه" الإنسان الصفر" شكلت فصيلا متقدما مارس حرية الخلق والانشاء بشكل قصووي رج الساحة الادبية (ومن ورائها الثقافية) وأخرجها من حالة الركود والسكون والاطمئنان فكان أن احتدت الصراعات واامجادلات وتباينت الطروحات والمقترحات، وتنوعت النوازع والمنازع الفردية والجماعية التي لم تترك احدا على الحياد .
ومهما يكن الموقف من هذه الحركة ومهما تكن التقييمات ، فان ذلك لا ينفي - على الأقل- بأن مالم تقله  الطليعة أكثر مما قالته وأعمق ، والأسئلة التي طرحتها أهم من الاجابات التي قدمتها . ذلك ان الكثير من الاشكاليات والمسائل قد أجهضت دون حسم ، أو توقفت دون تبلور وانضاج ، أو تلوت وتعرجت دون منطلق مطرد " مما جعلها لا تواصل تعنتها إلى اقصاه، وتذهب بعيدا فيما دعت إلى مواجهته.
محمد صالح بن عمر أبرز الفرسان في الكوكبة التي قامت على عاتقها حركة الطليعة وأحد عناصر النواة الصلبة التي وجهت مسارها من حيث غزارة الانتاج ، وتنوع الاسهامات ، والتدخل المستمر لكي تحافظ على تمايزها وتميزها.
يطرح بن عمر مشروعا نقديا يعمل على واجهتين : الأولى تنطلق من أن " لا أدب دون نظريات" ترفده وتسلحه بخلفيات مرجعية ومعرفية لا غنى عنها وتقطع فيه الممارسة النقدية مع الأحكام الذوقية والذاتية والتخمينية.
والثانية تدعو إلى " ضرورة خلق نقد تونسي " قائم على استنباط أسس تحليلية ومعايير تقييمية من النصوص القصصية والشعرية المنتمية إلى الطليعة" 
تتنزل هذه الممارسة ضمن افق" البحث عن الشخصية المميزة للأدب التونسي" وبالتالي على الكاتب " استخدام أشكال غنية مستنبطة من المجتمع الذي يعيش فيه " حتى " نستطيع الحكم على انتاج بأنه تونسي أو غير تونسي " انتهاء بأن " البحث عن الأشكال الجديدة هو منجب الحركة الطلائعية " ولعل خير معبر عن هذه المرحلة من مسيرة محمد صالح بن عمر كتابه " أشكال القصة الجديدة في تونس" من حيث وضوح المهج في استنطاق النصوص وتتاغم الفصول فيما بينها.
هذا الالحاح على مرتكزي التونسة والشكلانية وبعيدا عن الملابسات التي حفت بالأولى والاشكاليات التي طرحتها الثانية لا يمكن فهمها إلا بكون صاحب هذه الممارسة النقدية مسكون بهاجس الفرادة والتفرد والتأسيس والاضافة ،وبتعبير بن عمر نفسه سعي إلى ارساء " عهد جديد للكتابة" وهو توجه ينتهي به بعد تخليه عن المغالاة التي سادت هذه المسيرة - إلى ضرورة الاستناد إلى " جدلية لا لبس فيها بين مواقف الكاتب وانتاجه المكتوب " مع توسيع دائرة الاهتمام لتشمل كل المدونة التونسية في مختلف تضاريسها.
6
 " والطلائعي الطلائعي من تجاوز نفسه على أساس النقد الذاتي المتواصل" يقول محمد صالح بن عمر (الناس 15- 7 - 1972).
لعل هذا المسلك هو الذي حصنه من السقوط في الدغمائية وما يتولد عنها من احكام ماقبلية جاهزة وجزم قاطع وحسم متعسف وجعله دائم الاصغاء لكل مستجد ومتابع لكل مستحدث دون انبهار مرضي أو انغلاق مغترب ذلك أنه لا يطمئن الى فعالية منهج إلا بعد اختبار ولا يستكين الى نظرية إلا بعد تمحيص وتدقيق ، ولا يتوانى عن تغيير زاوية النظر إن لم ترتق إلى ملامسة " مخاض المعنى" واخصاب التأويل على اعتبار أن العمل الفني انما هو ابداع فردي مستقل ولكنه أيضاً ظاهرة تاريخية.
ومن جهة أخرى رفع الكثير من اللبس الحاف بالممارسة النقدية عندنا ،مفرقا بين مايمارس في الجامعة الذي " ينتمي الى تعليمية الادب " ولا يخلو من تكنوقراطية معرفية متعالية وبين ما يمارس في الساحة الثقافية المفتوح على جمهور متعدد المعارف والمدارك والاذواق . وهما سجلان مختلفان ولكل منهما مجاله دون أن ينفي ذلك تفاعلهما ، وهو ما أفلح بن عمر في تجسيده ماجعل ممارسته النقدية علاوة على انصرافها إلى ماهو مكرس ، مفتوحة على المغاير والمهمش ، أو الذي مازال في طور التشكل والتحقق.
لذلك هو ناقد طلائعي دون حركة طلائعية ولعل في هذا التكريم الذي هو به جدير، ايقاظ لتلك اليوطوبيا التي حملها ذلك الجيل: جيلنا.
7
لا يعدو هذا النص سوى مجرد دين أرده إلى رفيق بكل ماتحمله هذه الكلمة من معان نبيلة تتجاوز التصنيفات الحزبية المتهافتة . رفيق استفدت منه أكثر مما استفاد مني وحرضني- أنا القادم لتوه من تلك الافاق البعيدة - على ارتياد مناطق معرفية بها ينحت الكيان وتشحذ الارادة.
ويظل السؤال محلقا : من منا استرفق الآخر؟ ولا اجابة سوى ماتخفيه " هشاشة الكائن التي لا تطاق " على حد تعبير ميلان كوندرا.

تعليقات