محمد صالح بن عمر رفيق درب الطليعة

بقلم : احمد حاذق العرف

                                   " لقد طوى التاريخ هذه                        الحركة كما طوى غيرها من حركات سايقة "
             بن عمر ( جريدة الناس بتاريخ 15-7-1972)


" محمد صالح بن عمر رفيق درب الطليعة" حين اقترح علي أن يكون ذلك هو عنوان هذه المداخلة رحبت به بل قد وجد هوى في نفسي لتشكله من عناصر ثلاثة تربطني بها أكثر من وشيجة . فللرفيق نبرة خاصة لمن نهل من أدبيات اليسار، والدرب انتهى إلى دروب ، والطليعة تحيل إلى حقبة بعيدة تاريخية لم يبق منها إلا الصدى وبالتالي ماذا سأكتب عن محمد صالح بن عمر؟ ومن أي منطلق؟ أو كيف سأكتب عنه وهو المتعدد الاهتمامات وهو أمر ليس من اليسير الحسم فيه حيث يتقاطع ماهو ذاتي (الحميمية) مع ماهو موضوعي (الصرامة).
ومع ذلك سأحاول الملاءمة قدر المستطاع بين هذا السجل وذاك .
2
تعود صداقتي مع بن عمر بما تعنيه من ملازمة ومسارة وتناصح - إلى صفحة. " بنائيات" التابعة لجريدة المسيرة ( صدر منها 13 عددا) والتي تأتي بعد صفحة " التجاوزات" التابعة لجريدة الأيام (صدر منها 16 عددا وقد كنت قريبا ولم أساهم فيها لأسباب أشار إليها بن عمر نفسه وانتهاء بتجربة جريدة الناس وقد دخلت الطليعة منعرجها الأخير وفتح اولى المحاولات التقييمية لها.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تجربة" بنائيات" هي التي حفزتني إلى الاتجاه نهائيا إلى المسرح ( ومن ورائه فيما بعد مجمل التعبيرات السمعية البصرية) ورصد مايمكن ان يعبر عن هواجس الطليعة ومنطلقاتها في هذا المجال ( أول نص كتبته بصفحة"بنائيات"  كان بعنوان " نحو مسرح طلائعي" ) والانكباب على تطوير اليات النقد المسرحي التونسي.
وفي حين تفرغ بن عمر إلى التدريس والارتقاء في سلمه دون التخلي عن النهج الذي اختاره ( الانشغال بالأدب التونسي والاشتغال على تتبع تمفصلاته ، ورصد تحولاته) اتجهت الى العمل الصحفي ومواجهة مصاعبه ومتاعبه مع أهتمامات متقطعة بالتنشيط الثقافي خصوصاً من خلال ذلك اللقاء الخصيب برمزين من رموز الطليعة : عزالدين المدني حين مسك بدار الثقافة ابن رشيق ، وسمير العيادي حين أسندت له دار الثقافة ابن خلدون.
وبحكم اختلاف الشروط التي يعمل فيها كل منا والسياقات التي تحتمها فقد عزت بيننا اللقيا وأضخى" التنائي بديلا عن تدانينا" دون أن يحدث بيننا تجاف أو تنقطع مودة .
لين الجانب ، معتدل المزاج، يأخذ الأشياء برفق ولا يتخذ موقفا إلا بعد طول انصات وتقليب وتدقيق.
تلك صورته التي ترسخت عندي خلال تلك المعاشرة في تلك السنوات الصاخبة، فما رأيته يوما متشنجا أو متوترا رغم حدة الصراعات التي كانت تخاض انذاك.
ولعل هذه الخصال قد جعلته لا يخشى التفاوض دون أن يؤدي ذلك إلى تنازلات كبرى، وافتكاك مواقع دون السقوط في حبائل الاحتواء المفضوح منه والمتخفي ، وعدم التفريط فيما يتيحه الواقع الموضوعي من ثغرات وفجوات توسع مساحات التأثير وتكرس التوجهات الجوهرية.
لذلك تمكن من ان يجمع بين الطليعة كتكل (ائتلاف عناصر،تقارب طروحات، وحدة أهداف الخ) من جهة ، وكمسار راديكالي لا يخضع لاملاءات اليمين أو اليسار من جهة أخرى ، وهو ما جسدته بالخصوص صفحتي " تجاوزات" و" بنائيات" .
من المفارقات أن هاتين المبادرتين قد انبثقتا ضمن مناخ صحفي غير ملائم: ندرة عناوين وضحالة ممارسة، فقر تمثلات وضيق افق مشرفين ، تضايق من الحرية, وتضييق على على كل نفس يأبى الامتثالية . وعبر صفختين كأبعد ماتكونان عن أهتمامات الطليعة وتطلعاتها. ( أخبار رياضة، اصداء محاكم، فضائح ، نجوم الخ) .
وفي ذلك كله يبدو ومحمد صالح بن عمر الأكثر مثابرة على الايفاء بما يتعهد به ، والاكثر حرصا على الذهاب فيما اختاره مهما كان حجم المضيق، والأكثر اصرارا على استنزاف أقصى مايتيحه الموقع من امكانيات. لا يخلو اختيار العنوانين" تجاوزات" و " بنائيات" من دلالة التجاوز بما يعنيه من ضرورة تخطي العتبات الممنوعة ، وتحدي اشكال العطالة المانعة لكل حرية وتقدم والبناء بما يستدعيه من ترسيخ لمشروع يسعى إلى الاكتمال ، وكلاهما يخفي هاجسا غير معلن : امكانية تشكل الطليعة كتكل من حيث سبل الانتماء وشروطه ، وتوزيع الادوار والمواقع، وتحديد الخيارات والمواقف.
إلا أن هذا الطموح سرعان ما ارتطم بصلابة الواقع الذي يواجهه وحال دون تجسيد مابه لوح ووعد . وليست محاولة بن عمر على صفحات جريدة " الناس" سوى سعي يائس إلى إنقاذ ما يمكن انقاذه من حركة تشتت شملها، وضاقت مسالكها، وأقفرت دروبها.

تعليقات