‏فتحي ‏العكاري ‏يكتب ‏عن ‏الممثل

الممثّل-المؤدّي

نستنير ونستند أوّلا بما جاء في المعاجم والموسوعات العربيّة والفرنسيّة، نجد فيها تعريفات ودلالات للمؤدّي تتغيّر حسب المجال المفعّل فيه أو حسب طبيعة نشاط الأداء. أمّا أصل الفعل فهو من أدّى يؤدي تأدية، فهو مؤدّ والمفعول به مؤدى ومصدره الأداء. والمؤدي هو من أوصل وسلّم (الأمانة). هل التمثيل أمانة؟ ومن أمّن عليها؟ أمّا الأمين والمؤمّن فهو في حالتنا الممثّل، وهو أيضا من قام بمهمّة (مأموريّة)، من كلّفه بها؟ ولبلوغ ماذا؟ ومن التعريفات أيضا: من بلّغ معنا مضمون كلام.

التّمثيل إذا وإن كان مرتبط عضويّا بالكلام، فهو غير الكلام. السّؤال هنا إلى أيّ حد التعبير والتبليغ اللّالفظي رهينة اللّفظ والكلمة؟ هل من فخاخ التفكير أن نلزم بقبول هذه الثنائيّة وطرح مسألة السّلطة والإستقلاليّة قبل الحسم في هذه الإشكاليّة لنواصل الإبحار وحصر أكثر دلالة للفظ الأداء. قد يعني الأداء التلاوة (قدسيّة التمثيل؟) أمّا صيغته فتعتمد أساسا على "الألفاظ" الّتي بها ينقل الراوي (الممثّل) الحديث وفحواه، هو فعل ونتيجة فعل، وإظهار معنى مبهم. ومن معانيه أيضا ترجمة نصّ للغة أخرى (ركحيّة). "مهمّة" أو "وظيفة" أو "دور" المؤدي (الممثّل) البحث في كيفيّة تبسيط وتفسير ما هو مركّب متشعّب أو غامض في الكلام، وفك شيفرته. وتتسم تلك الترجمة بالذاتيّة والشخصنة لفكر ونوايا المؤلّف.من ثنائيّة الفعل إذا (اللّفظ واللالفظ) إلى ثنائية الفاعل ة(المؤدي الممثّل/ المؤلّف الكاتب) وارتهان هذا لذاك (أو به)، (متى استعبدتم الممثّل وهو حر). المسألة الأخطر والأهم الّتي يطرحها لفظ المؤدّي هي مسألة المشروعيّة العلميّة لفكر ما. إذ أنّ القراءة تبدو غير كافية فوجب الإعتراف بدور الحدس والفطرة.

مسألة الوساطة بين المؤلّف والمتفرّج (السمّيع) تطرح أيضا وبقوّة لما فيها من استقراء وتأويل وتحريف وتلميح وتوجيه وتفسير (خاص) وتصوير وجسيد. الدور مهمّة يحملها الممثّل والأداء إنجاز التبليغ والتحقيق، هامش التصرّف في الأصل شاسع إذا. إلّا أنّ الممثّل المؤدّي يعتمد على آليّات ووسائل تعبيريّة لا لفظيّة بسيطة إلى حدّ السطحيّة (في حالات) رغم أنها في الأصل لا منتهى لها وفيها من العمق ما ندر. مواطن هذه الآليات والوسائل هي أوّلا الصوت ومنابعه وطبائعه... ثمّ الوجه وتقاسيمه ونجد أيضا وخاصّة الأيدي والحركات ونحتيتها وحراكيتها وما لها وفيها من فضاءات واتجاهات وطاقة وإيقاعيّة لا منتهى لها، ونجد أخيرا موطن الهيكل الجسدي وما له أيضا من منحوتات وزوايا لا حصر لها. هذا في المطلق أمّا في الواقع الركحي للممثّل المؤدي في تونس فيتسم بالبساطة المفزعة في التعبيرية والإكتفاءوالإجتراروالإعتماد على الكليشيهات وما فيها من مبتذل ومن ساذج مرعب (إلّا فيما قلّ وندر). المجال الدلالي لا يستثمر ثراء ما هو ممكن اعتماده من الجسم بل كلّ ما منه وفيه تصوير بدائي وسطحي للكلمة، ابتذالا متعارف عليه (ومتقاسم)، نسخ فارغ من كلّ ذاتيّة، مقوقع في التبعيّة والارتهان للكلمة، وفيها اعتراف بالنقص إزاء الكلمة. وحتى يتستّر التعبير اللا لفظي على هذا التقدير السلبي، يبالغ فيه ويضخّم ويعيد ويكرّر ذاته إلى حدّ الثرثرة، يغفل الممثّل-المؤدي على ثراءه الأصلي والمستقل على اللفظ ولا يلتزم بقاعدة الضرورة الحتميّة بل يعتبر من المتممات.        

الممثّل-المؤلّف

الممثّل-المؤلّف هو أصل الفعل، والسبب الأهم في وجود المسرح، بل هو مع المتفرّج سبب الأسباب، وهو بهذا يظهر نفسه كشافا مسؤولا مؤسّس للشيء ولمبادئه، هو أيضا من يكون منبع الفعل الحديث المستحدث، وتنسب له المسؤوليّة الأولى المنشأة لعدّة أشياء أفعال وأقوال وغيرها. وقد يكون أيضا من زاوية الأخلاق والقانون ذلك الّذي اقترف جرما، قام بفعل أو قال شيء منبوذ/ممنوع/محرّم. وهو أيضا (وهذا أبهى وأرقى) من يمتهن الخلق ليتكوّن خالقا لأثار من وحي الواقع والخيال، أو من مجالات  الما بين. أمّا من زاوية نظر سياسات صناعة التاريخ فهو أوّلا وعي ينشأ من وفي رحم المدينة فينشئ نوعيّة مواطن مشّاء في الشّأن المدني في تاريخه وفي حاضره قبل (أو لنقل في مزامنة لصيقة) يتحوّل ممثّلا مبحرا في حركيّة لا مستقرّ لها.

وهو اختصاص مهني وتأهيل وتحصيل تقني فنّي وفكري، نشاطه لا معنى له إلّا في علاقة بالمدينة، يتعايش ويتموقع في شبكة العلاقات المدنيّة بأنواعها، وفي حالات استثنائيّة يصبح موقها، وهذا حال ما كانت عليه الممثّلة المناضلة رجاء بن عمّار، أوّل مؤلّفاتها هي حياتها الركحيّة وعمادها الأهم حريّة القرار واستقلاليّة التفكير والتعبير والاختيار والانجاز والترويج، ما يفترض مخزونا معرفيّا تستنير به وتنير. اكتسبت حقّ استقلال خطابها ولذا اعتمدت أكثر آليّة الارتجال، وهو حال بقيّة الممثّلين المؤلّفين وهم قلائل في تونس.

الممثّل-المؤلّف يلد نصّه الملفوظ بفعل الإرتجال والمراوحة معه ومع التفكير والتحليل حول الطاولة، يساهم في تأليف حبكة التخريف والمحاور والمسائل المطروحة، يضع الشخصيات فعلا وفكرا، دائما في ثنائيّة الجدل والتفاعل والمراوحة بين الارتجال وقواعده الأهم هي: الغير منتظر، فوضى الحواس وفجئية الفعل وآنيّة التفاعل مقابل البعد النقدي والتفكيك والتثبّت والتثبيت والمحو والنفي والتعمّق... وبهذا وبذاك يولد الجسد المفكّر الواعي المثقّف المدرك...

يؤلّف هذا الممثّل الملفوظ واللاملفوظ ليساهم في بناء خطاب مكتمل متناسق متناغم وكلّي. العلاقة بين اللفظي واللالفظي هي علاقة تطابق وتضادد واختلاف. علاقة الممثّل-المؤلّف بالمخرج أو إدارة التمثيل أو الاختصاصات الأخرى هي علاقة ضرورة، يعي الممثّل-المؤلّف نوعيّتها ويحسن حوكمتها، معتمدا على تجربة انسانيّة ثريّة وزاد معرفي مرجعي عال يخص المسرح وفنون الفرجة أو مجالات أخرى ذات الصلة نذكر منها علم الإجتماع والفلسفة وعلم النفس والتاريخ والسياسات الاقتصادية وغيرها، يستعين بها للسفر في الانسان (الموجود والمنشود) أجمل متاهة وفي الحياة فرصة استثنائيّة، فله أن يحياها في سعادة وسكينة في العزلة أو في المجتمع، لأنه وجد معناها: الخلق التردادي أو الاستشرافي، وبذا يكون الموت استحقاقا. ما كلّ من يحي يموت.

قبل التطرّق لثالث أصناف الممثّلين وهو الممثّل-الباحث يطيب لي التذكير بما أسميته الممثّل-الإنتحاري وهو أرقى درجة يبلغها الممثّل-المؤلّف.

الممثّل-الباحث

الممثل-الباحث هو مختص متفرّغ في المسرح وفنون الفرجة، وهو ذا خبرة ميدانيّة معمّقة وتحصيل جامعي عال... ملتزم بوثيقة ضابطة لقيم أخلاقيّات المهنة... يعمل على تصوّر وإنتاج المعارف المسرحيّة الماديّة واللا ماديّة... يشتغل على الإجراءات والطرق والمناهج والأنظمة المستحدثة والمبتكرة الخاصّة بمجال اهتمامه... يساهم في اختيار المشاريع وفي حسن حوكمة تسييرها وإشعاعها... يتّصف بوعي فاعل يقتدر به على حصر المسائل العالقة والعاجلة المطروحة على المستوى الفنّي ويحدّد مشروعيّتها المدنيّة والتاريخيّة... الممثّل-الباحث قادر على ترجمة تفكيره في ضبط إشكاليات عمليّة وتحديد مقاربات التطبيق والتمشي الخاص بها وتقدير نجعتها وتطويرها والجرد المسبق للوسائل والآليات الضروريّة لإنجازها وامتحانها عمليّا... كما يساهم في تطوير وتثمين الاستراتيجيات المقترحة للمساراتالمتنوّعة في علاقة بالأهداف المرسومة.

 

د. فتحي العكاري

 

تعليقات