أصفى من البياض ..متوالية الشجن العذبة

(( أصفى من البياض ..متوالية الشجن العذبة ))

منذر عبد الحر / العراق

عبد السادة البصري , شاعرٌ مسكونٌ بلوعة قلب العاشق لحرالرة الجنوب , بكل تفاصيلها , ومفردات طيبها , فتراه ينشدُ برهافة إحساس مواويل أهلنا التي خلدت في ضمير الأرض والمياه وندى الأشجار , الذي يمثل دموع عشاق خالدين , وفرسان طيب ملتاعين , وهذا الإحساس جعل من عبد السادة البصري شاعراً يطلقُ غنائيته المحببة في فضاء قصيدة النثر , محققا فيها توازناً فنيّاً , تدعمه صدق التجربة وحرارة الانتماء , والشاعر المولود على رأس الخليج العربي في مدينة الفاو , أصدر ست مجموعات شعريّة , يربطها خيط شجن متصاعد , وانتماء حقيقي لعالم الفقراء النقي , ونايهم الصاعد إلى السماء وهو يحمل عذوبة التغني بأوجاعهم , التي طالما ترجمت شعراً وأغاني , وأعمالا إبداعيّة متنوعة ...
المجموعة الجديدة للشاعر عبد السادة البصري حملت عنوانا يحمل صيغة مبالغة تنطوي على دلالة عميقة في التعبير , فالبياض , وإن لم يكن صافيا في الكثير من الأحيان , إلا أنه أخذ رمز الصفاء , الذي تحداه الشاعر ليعلن أن ما جاء به هو " أصفى من البياض " وهو عنوان إحدى قصائد مجموعته الشعرية التي صدرت مؤخرا في السويد عن دار ميزر للنشر والتوزيع , وقد تبنت مشروع طباعتها جمعية زيوا المندائية الثقافية , وهي التفاتة مهمة وكريمة يستحقها الشاعر ...
في القصيدة التي حملت المجموعة عنوانها يقول الشاعر :
" الآخرون أفردتُ لهم صفحة القلب 
وتركتُ للروح بياضا
لازمني وهمي ملازمة الروح للجسد
تدفأتُ بالحنين ..وأصغيتُ ..أصغيتُ ..
حتى ملّني الصمت 
داخلي أصواتٌ تخنقني .." 
حتى يصل إلى نهاية القصيدة فيقول :
" كنتُ أرضى جدا أن تذبح أحلامي
لكني لن أقبل قط أن تتلوث...ما تلوثتُ 
ظلّ حلمي , قلبي , روحي
 ذهب الآخرون جميعا 
وبقيتْ روحي بيضاء ...بيضاء " 
وكأني به يقول " ذهب الذين أحبّهم ...وبقيتُ مثل السيف فردا" 
رغم اختلاف وتنافر المعنى بين الخطابين , لكن تميّز الذات هو الذي جمع بين الموقفين , فكان "الآخرون"  عموما عن عبد السادة البصري أما عند عمرو بن معد يكرب , فهو ذهاب محبيه , وقد اخترتُ هذا البعد الدلالي بين الشاعرين , لأنه جاء ممثلاً لشجن الذات الذي يعيشه الشاعران في هذه اللحظة تحديدا .
لغة الشاعر عبد السادة البصري , منتزعة من بواطن البيئة , ومفردات الحياة بكل تشظياتها , وكذلك من نبل الأوجاع التي يصوغ جمالياتها بإعطاء روح للمكان , والإحتفاء " ببطولة الأشياء" باعتبارها كائنات حية نتعامل معها تعاملا وجدانيا موحيا ..
" لغرفه الطينيّة همسٌ
لن يفارقك العمر
ورائحة تملأ رئتيك
ما شممت أعبق منها 
لشبابيكه , العصافير تحجُّ
تعزف ..
ترقص..
وتغنّي ...ثم تتوسّد خدّه وتنام
لأبوابه 
الزائرون كثر
ولسدرته حفيف 
كلّ ليلة ..يغازله القمر "
لنتأمل كيف يصنع عبد السادة البصري مشهده , فتغدو المهملات عنده نابضة بالروح , محتفلة بالحياة , ليجعل من منظرها العادي فضاء جماليا محببا , وهنا تكمن موهبة ومهارة الشاعر معا , حيث يستنطق الجوامد , ويؤنسن الأشياء , وبالتالي يخلق من الثوابت المرئية الجامدة , حركة تفيض حياة وحيوية وجمالا .
من أهم عوامل نجاح قصيدة النثر , خروجها عن هواجس البوح المباشر , واسترسال الأحاسيس والمشاعر , لأن الفرق بين الخاطرة الأدبية وقصيدة النثر يتضح أولا في أن الخاطرة تطلق كأحاسيس ومشاعر ورؤى جمالية مباشرة , بينما قصيدة النثر تخلق من خلال لغتها الاستثنائية رؤى جمالية مختلفة , تعتمد صورا فنية جديدة , تمزج بها الأفكار والمشاعر , لتظهر للمتلقي بمديات دلالية تخفي في أعماقها دهشة الشعر .
إن عناوين قصائد مثل " على أنغام المطر يراقصهم الدخان " و " أهزوجة الطفولة ..تطوّحها الأهازيج " و" بميسمه ..وشمهم البحر" و" هلاّ انتهيت لمائدة , واقتنيت الفرح " ..إلى آخره , هي عناوين تنطوي على بنية مركبة من الرؤى , لذلك لا تتطلبُ الركض خلف معانٍ ودلالات محددة , بل تمنح قدرة إمساك بلحظة جمالية متوهجة بمهارة الأداء , وقدرة الشاعر على ترويض اللغة واستخدامها بكل ممكناتها ومحسناتها , ولعل الدراسة المستفيضة لجوانب الاشتغال الشعري للشاعر المبدع عبد السادة البصري , تنصفه كتجربة شعرية لها حضورها البهي .

تعليقات