غَيْم عَلَى القِيَم ‏

غَيْم عَلَى القِيَم                    
                     لمحمد بن أحمد مومن

  "َبعْدَ الإِنْسَان... ها هو ذا ما هُنَا-هُنَاكَ"
 (غِي دي مُوبَاسُنْ، "لِي هُورْلاَ"،  Guy de Maupassant, Le Horla)

      
 
*
                                            
                 ها أن البشرية، هذه البشرية التي نحن منها وهي منا، باتت تعيش حضاريا في زمن ما أصبح يُسَمَّى ب "العَابِر للأَنْسَنِيَّةِ" ("التْرَانْسْ هُومَانِيسْم" )، ويبدو أنها الفترة الانتقالية التي ستحملنا قريبا إلى عهد "مَا بَعْدَ الأَنْسَنِيَّةِ" ("البُسْتْ هُومَانِيسْم "( وهو زمن سيختفي فيه الانسان الذي عرفناه واحتفينا به طيلة آلاف السنين. سيصبح الانسان من الغابرين، من تلك الكائنات التي كَانَتْ ثم زَالَتْ. لن يبق من الانسانية التي عَرَفْتَهَا وعَرَفْتُها شيئا مذكورا. ستصبح القيم التي قامت عليها حياتها هباء منثورا. ستذهب ريحها وتنهار المبادئ التي بنى الانسان عليها تاريخه في الأرض. أجل، كل أعرافنا ومعارفنا ستذروها رياح هوجاء لا تُبْقِي ولا تَذَر. يبدو هذا مآل البشر. إنه قدرهم ولا مفر. لا أمل لهم في مهرب أو خلاص. ليس لهم في الآفاق ملجأ ولا ملاذ. هل هي النهاية؟
           جُلُّ العارفين والمفكرين يرون، وللأسف، أنها النهاية وأنها قريبة وشيكة ولا رَيْبَ. فرغم بعض الأرواح المتمردة الغاضبة وللواقع متجاهلة ناكرة، نهاية البشر فوق الأرض هذه مُسَطَّرَة. إنها ليست أسطورةً من أساطير الأَوَّلين، كَلاَّ ثم كَلاَّ. من واجبنا أن نعرف ونعترف بهذا المصير، مهما كانت قسوته. وبعد هذا، ألم يأت يوم أخبرنا فيه ابْنُ خَلْدُون أن الدُّوَلَ تَدُولُ، تَزُولُ ولاَ تَدُومُ؟ وهب أننا ذهبنا مذهب "أَنْدْرِي مَالْرُو" الذي يعتقد راسخا أن الحضارات تتبدل وتتحول وقلما تبيد وَتمَّحِي لأنها تبعث حية في حضارات أخرى، أي أنها ترى أرواحها تتناسخ، فهذا لن يمنعنا من التأكيد مع "بُولْ فَلِيرِي"٤ على أنَّ " الحَضَارَات فَانِيَةٌ تَمُوت". فأينها حضارات "باَبِلَ"؟ "وَعَاد إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ التِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاَدِ" (سورة الفجر،) ؟ وأينها "ثَمُودَ الذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ باِلوَادِي"(سورة الفجر،)؟ و "فِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الذِينَ طَغَوْا فِي البِلاَدِ" (سورة الفجر)؟ أينها اليُونَان،  قَرْطَاجَنَّة وَالرُّومَان؟ وأينها "الأَنْكَة" و" المَايَا"؟ وغير هذه الأمم والحضارات كثير، فأين ذهبوا؟ 

             ها نحن نستفيق أخيرا على أن وجود الإنسان على وجه الأرض والذي حسبناه سيدوم دوامها، لنقل إلى يوم يبعثون، هو وجود موقوت وإن كان مجهولا. لا ريب أن لنا فيها مستقرا ومتاعا إلى حين، ولكن يبدو أنه حان الحين وآن الأوان. حَسَبْنَا أيامنا في كوكبنا الأرضي بلا حساب فإذا هي محسوبة معدودة. من لا يعلم أن حضورنا أجله معلوم؟ ولولا كبرياؤنا وعنادنا اللَّعِين، ما كنا توهمنا أبدا، أننا باقين فيها إلى أبد الآبدين، دائمين، خَالِدِينَ، لاَزِبِينَ، غير زائلين. من منا جميعا يجهل أن قصتنا نحن الآدميين رواية، وأن لها ككل الروايات بداية وأنها ستعرف لا محالة نهاية، ولكن ما كنا نحسبها وشيكة، وبهذا الشكل وهذه الصيغة. لم نُصْغِ في هذا المجال إلى تحذير العقلاء إلا لِمَامًا ولم ننتصح بنصح الحكماء ولو قليلا، فقَلْبُنَا عنهم تَلَهَّى. أفلم يُذكِّرُوننا أن كل الناس ميتون ويُبَيِّنُوا لنا، ومنهم "مُونْتَانْي"، أن الحياة هي الحكمة وعين الحكمة في "التَدَرُّب عَلَى المَوْتِ" والتأهب لها؟ ثنائية الموت والحياة تمسح كامل الوجود وتحيط بكل العدم. لا شيء يمكنه أن يبقى خارجا فائضا عنها : الموت في قلب الحياة والحياة في صميم الموت. وما الحياة الدنيا إلا لحظة بين مَوْتَتَيْن، وجود بين عَدَمَيْن. الحياة انتظار للموت : هلا أنصتنا، على سبيل المثال، إلى ما يقوله مسرح "سَمْوَالْ بِيكَاتْ"٦ ؟ إنه يشهد على هذه "البَيْنِيَّةِ" ويشدِّد على هذا الانتظار! لن ينجو أحد. الكل فَانٍ، وحده الزّائلُ داَئِمُ. والحكمة الهندية، وبالخصوص" كُنْفِيشْيُوشْ "، لا تؤكد، بإلحاح شديد، غير تأكيدها على أن لا ثابت غير "اللاَّ ثَابِت". فما الغرابة إن أقفرت الأرض يوما منا ولم يبق فيها أثر للبشر؟ أنسينا أننا نحن لسنا سوى إنسانية "ماَ بَعْدَ النَّوَوِي"، أبناء "هِيروشِيمَا"، يا حبيباه! "هِيروشِيمَا" و" تْشَرْنُوبِيلْ " و" فُكُويَامَا ". فما العجب أن نرى الأرض يوما يَباَبًا، بل الغريب أنها ما زالت لم تخل من جنسنا تماما وأننا ما فتئنا نرى فيها من
  الإنس ما نرى. إن هذا لمن المعجزات حقا.
              وهَلاَّ تذكرنا "الحَرْبَ البَارِدَةَ " (وهل هي حقا باردة؟) وما خلفته من الرعب المستمر بين  المُعَسْكَرَيْنِ، الشرقي والغربي، أي بين أرجاء العالم الذي عاش طويلا على وقع أفكار "الرَّدْعِ   النَّوَويِّ" بمنطق" التَسَابُقِ للتَّسَلُّحِ" المقنع بقناع "عَدَمُ البَدْءِ فِي الاسْتِخْداَمِ"؟ ومن ينكر أن انتهاء الحرب الباردة لم يصاحبه نزع أسلحة الدمار الشامل؟ بل إن المشهد النووي ازداد سوء إذ ولد في التسعينات بعد انهيار جدار بَرْلِينْ بقليل ما سمي ب " العَصْرِ النَّوَوِي الثَّانِي". لقد صار المشهد أكثر تعقيدا لأننا تجاوزنا الوضع السابق حينما كانت تسوده القطبية الثنائية التي تضع وجها لوجه العالم الحر والعالم الاشتراكي إلى وضع مُنْفَلِت يشتمل على برامج نووية سرية وعلى وفرة ما يعرف ب " الأَسْلحَةِ النَّوَوِيَّةِ السَّائِبَةِ " وكذلك على تنامي المشاعر القومية المنغلقة المشحونة والمسكونة بهوس الخطر الداهم من العدو المجهول (هذه الأرواح المريضة فريسة شبح الخوف من "الآخر" التي صورها فأحسن تصويرها "دِينُو بُوزَاتِي" في روايته "صَحْرَاءُ التَتَارْ"). 
              ولا بد أن نضيف إلى هذا كله عوامل أخرى تتصل بالمحيط العالمي الذي يتسم بجوٍّ كلّه اضطرابات، وهو شديد التقلبات، نادرا ما يعرف الاستقرار وقَلَّمَا يبعث على الاطمئنان. ولا بد أيضا أن ننتبه إلى بروز وجوه جديدة فاعلة في الميدان النّووي من غير صنف الدّول ومؤسساتها كما كان الشّأن سابقا، ومن بين أولائك نخص بالذكر أمراء الإرهاب وتجار ومهربي الأسلحة من نوع الكيمياوي والبكتريولوجي وبالخصوص النووي. لو اعتبرنا هذه المعطيات، لغامرنا بالقول إن الحرب النووية قادمة بلا ريب مادامت أسلحة الدمار الشامل أصبحت في متناول الجميع وبكل اﻷسعار، في كل الأماكن والأسواق، في أيدي المافيا وتجار السلاح. الحرب لم تقع؟ صبرا ! إنها على الأبواب، طبولها تدق دقا عنيفا يصم الآذان. قريبا، ما هي إلا لحظات معدودات، وتكون الحرب العالمية الثالثة، الثالثة وبلا شك  الأخيرة. فمن لا يعلم أن الإنسان قادر راهنا على محو الأرض قاطبة؟ لنا أن "نفتخر" أن لبني آدم القدرة على تفجير كوكبنا العديد والعديد من المرات (لا أحد في هذا الميدان يعرف بدقة الإحصائيات غير بوليس الإنْتَرْبُول والمخابرات، تلك الكائنات التي تعيش في عوالم ما "تحْت الأَرْض"، في  الظلام والخفاء، في العتمة والديجور، وقلما ترى الشمس والنور). إن شبح فناء جنسنا يقترب شيئا فشيئا مع مرور الأيام، فلنعترف إذن أن قصة الإنسان قصيرة. إنها أقصوصة لا تمثل شيئا ذي شأو كبير في القصة الكونية: أليس زمن الحضارات لا يتجاوز " ثَلاَثَ دَقَائِقَ" بالنظر إلى الزمن الكوني حسب زعم عالم الفَلَكِ الفرنسي " هُوبَارْتْ رِيفِزْ" ؟ أليس من العجب العُجَاب أن عُمُرَ حضاراتنا الإنسانية كَافَّة تدوم ما تدوم أغنية من قار أغنيات فَيْرُوزْ القصيرة، لنقل "نحْنَا والقَمَر جِيرَان"، التي هي أقصر حتى من حَبَّيْتَك بالصَّيْفْ"؟ إن هذا الوعي الكوني، وإن خَفَّفَ من مأساوية اختفائنا من على هذي الأرض، فإنه لا يزيل كل خوفنا من هذا المصير الحالك. لا، لا عزاء لنا، لا شيء يستطيع أن يُلَطِّف من مُصَابنا... (يتبع)

تعليقات