الفوضى الخلاّقة

الفوضى الخلاّقة
                         لمحمد مومن

 
     نواصل جولتنا في " العَابِرِ للأنْسَنِيَّة ".  وها نحن نقترح مقطعا آخر من  المقالة " غِيَمٌ عَلَى القِيَمِ ".                             
   

           ما هذا؟ ما هذا إلا ما عَناه علماء التحليل النفسي، وعلى رأسهم " سِيغْمُونْ فِرْوِيدْ "، حين تحدثوا عن " قَتْل الأٌب " في وصفهم لقصة " أُودِيبْ " وعقدته - وهم ختاما يرمزون إلى بنيتنا النفسية وتركيبتها- وفي حكايتهم لما يَعْرِفُونَهُ ويُعَرِّفُونَهُ ب " الرِّوَايَة العَائِلِيَّة ". هناك ولادتان: وما الأولى إلا ولادة بيولوجية ضرورية ولكنها لا تكفي وإنما ثاني الولادات هي الولادة الحقيقية، وهي أساسا رمزية. إنها في ذات الآن حَدَثٌ وليست بحَدَثٍ. فهي حادثة بما هي فعل ينشأ وينشب في لحظة ما من سير الزمن الذي لا يسأم ومشيه الذي لا يقف ولا يتعب، لا يفل ولا يمل. ولكنها أيضا، وفي نفس الوقت، ليست طارئا لا ماضي له أو إطلالة لا تاريخ لها. بل هي حادثة لا تحصل، هكذا، صدفة أو بغتة، وإنما تأتي تدريجيا، رويدا رويدا،  كأنها على مهل، وهو ما يعني أنها لا تصدر سوى على مراحل وفصول. وهي إذن لا تظهر إلا نتيجة مسيرة طويلة عسيرة. هي لا محالة شيء ما يقع ويَجِدُّ، وبالتالي فإنها واقعة من الوقائع تندرج بلا شك في منطق الظواهر التي ما فتئت تعرفها الطبيعة في سيرورتها الأبدية فتراها في كل زمان ومكان. ولكن الولادة الثانية هذه، وهي ما هي، ولادة حقيقية لأنها رمزية. وعكس ما يتبادر إلى أذهاننا، الرمزي هو كل ما هو حقيقي. وهو ما يعني أنها ولادة مكتسبة، غير معطاة ولا مهداة. وإنما هي لَثَمرة جَهْدٌ جهيد ومعاناة شديدة ووجع جِدٌّ أليم. وهي بعد هذا كله، وإن لم تكن من نازلات صروف الدهر فإنها ولادة، وقعها كوقع " الوَاقِعَةِ " بالمعنى القرآني للكلمة : وهي بالنسبة للطفل وبالتالي للكهل الراشد أو الشيخ الطاعن- نِهَايَةُ عَالَمٍ، بل إنها نِهَايَةُ العَالَم : انهيار شامل لدنيا بدأ يأنسها ويحسّها بكل حواسه.
       إن اغتيال الأب شَرْطُ انبعاثِ الابنِ وسَبَبُه. من هنا يمكن القول إن لولا هذه الجريمة الرمزية المتمثلة في قتل الأب لما وُجِدَت ما اصطلح على تسميته ب "  الأَنْسَنِيَّةِ " (أو " الإِنْسَانَويَّةِ "). وهذا يتناسب ويتماثل وحكايةَ " الرِّوَايَة العَائِلِيَّة "  كما أسلفنا بالنسبة للإنسان الفرد الفذ الذي لا يبلغ شخصيته، أي " أناه " المتميزة وذاته المتفردة إلا عندما يثور على الأب وينقلب عليه، يزيحه ويزيله، عندما يغادر ممالك مَنْ أنجبه وَوَلَدَهُ إلى أوطان مجهولة موحشة تتمثل أرضا واسعة بلا حدود غير آمنة ولا محروسة محمية، وكأننا بها - في عينيه - ما يشبه القارات الغير معروفة والتي سيجد نفسه مجبرا على أن يغامر فيها ويغزوها. سيضطر إلى أن يبحر في مجهول الوجود والحياة حتى الممات. بهذه الصيغة وحدها سيكون قادرا على نحت قدره وصنع مصيره. وهكذا أصبح المثل الأعلى للفرد هو تَجَلِّي " إنسانيةِ الإنسان" فيه. لا بد أن نعقل مغامرات الذات الفرد والذات الجمعية، بين الروايات العائلية وروايات الأوطان والأقوام والأمم. ولهذا لا نستغرب حينما نرى كيف دعا إنسان " النَّهْضَة " إلى اكتشاف العالم بكواكبه وأَجْرَامِه، بنجومه ومَجَرَّاته وكيف سعى إلى التعرف على الأرض بقاراتها جميعها مجتهدا كل جهده أيضا في نفس الوقت كي يفلح في التعرف على الذات والاعتراف بها فإعلائها علوا كبيرا. إن النظرة السابقة لل " النَّهْضَة "، في قديم الأزمان، مع الإغريق الأوائل مثلا،  لا ترى الفرد في ذاته وبذاته بل تنظر إليه ككائن يندرج في نظام قِيَميٍّ عام شامل، متناغم ومتجانس لا يستقل بذاته ولا يجد أو يكتسب معنى وجوده إلا ضمنه. الإنسان فردٌ في جَمْعٍ، فَذٌّ في جَوْقٍ، جُزْءٌ من كُلٍّ، آلَةُ عَزْفٍ في " أورْكَستْراَ  ." الكائنُ كائنٌ بالكوْنِ وفي الكون. وما الكون؟ الكون، وما أدراك ما الكون، كائن موسيقي : إنه سَنْفُونِيَّةٌ. كُثْرٌ هم الذين يرون في "عهْد النَّهْضَة "، وفي " مَرْحَلَةِ العَقْلاَنِيَّةِ " و" الكْلاَسِيكِيَّةِ " (" الجديدة "، القرن ١٧) وكذلك في " عَصْرِ الأَنْوَار " وجوها مختلفة، أحيانا متنافرة وأحيانا أخرى متآلفة، ولكن في كل الحالات مشتركة، من وجوه الحداثة وتجلياتها. ولكن هناك من يرى بشيء من الصرامة وبكثير من التَّشَدُّدِ الحداثة في القطيعة الإبِسْتِيمولُوجِيَّة التي عرفتها العلوم والمعارف انطلاقا من القرن التاسع عشر. لقد أثمرت هذه القطيعة، علاوة طبعا على العلوم الطبيعية الصحيحة ( " الفِيزِيسْ " )، ما عُرف ب " العُلُوم الانْسَانِيَّة " و" الاجْتِمَاعِيَّة ".
          ورغم طغيان المنوال الطبيعي على الفكر الإنساني واللاَّإِنْسَانِي، فسرعان ما دَبَّ الشَكُّ في العقل وسلطانه : إلى أي مدى يقدر الوصول إلى الحقيقة التي صارت غايةً لا تُدرك، بل قل وهما وسرابَا؟ قد انتهى زمن الحقيقةِ الواحدةِ المفردةِ وبدأ عهد الحقيقة في صيغة الجمع. لا سبيل مستقبلا إلى رؤية الحقيقة من زاوية نظر واحدة، متجانسة مع نفسها متناغمة. من الآن فصاعدا وجب القبول بالتنوع والاختلاف. كان علينا أن نرضى بالتغاير والتخالف، بالتنافر والتناقض وحتى بالتصادم والتصارع. انتهت أيام الانسان ذي" البُعْدِ الوَاحِدِ" (هَرْبَرْت مَرْكُوزْ) : لن تَسْتَطِيع من هنا فصاعدا أن تَرَى الكائن، مهما كان، من البعوضة إلى الكواكب واﻷقمار وكبار الأجرام، إلا بأبعاده المتعدّدة. كيف يمكننا نكران حقيقة تَشَظِّي الذَّوَات؟ إلى متى لا نعترف بأن الموضوعات باتت كالرّمال المُتَحَرِّكَة لا تَثْبُتُ أو كالأسمَاك في عرض البحار لا تمْسَكُ؟ لنفهم أنها لا تتوقف. كيف القول؟ لا قول إلا ذاك : إنها لا تَتَوَقَّفُ. لقد تغيّر المنطق الذي يحكم الظواهر ويَسُوسُهَا. وانطلاقا من هنا تَخَلْخَلَتْ القيمُ وزُلْزِلَت الأخلاقُ ودُمِّرَتْ المُثُلُ وانْحَلَّتْ المبادئُ. ثم أرسى بنا التاريخ على شواطئ ما سَمَّوْهُ بأزمنة " مَا بَعْدَ الحَدَاثَةِ ". وماذا رَأَوْا، يا تُرَى، في " مَا بَعْدَ الحَدَاثَةِ "؟
       لقد رأوا فيها  نهاية " كُبْرَيَاتِ الأَسَاطِيرِ " وقد عَنَوْا بها " كِبَارِ الميثُولُوجِيَاتِ "، أو " كِبَارِ السَّرْدِيَات ". حدث بعد أن هزموا الشُّيُوعِيَّة وهَدَّمُوا جِدَار بَرْلِين وأثاروا "عَاصِفَةَ الصَّحْرَاء " وأعلنوا عن " نِهَايَةِ التَّارِيخِ " وانتشار " العَوْلَمَة " وتْسُونَامي " اللِّيبِيرَالِيَّةِ الجَدِيدَة ". إنها " الفَوْضَى الخَلاَّقَة " كما سَمَّوْهَا. صار العالم بلا حدود. أنهوا " سِيَادَةَ " الدُّوَل، نسوا استقلالية الشعوب والبلاد والعباد، وفَسَخُوا بالتوازي شيئا فشيئا الحدود بين ما هو عمومي وما هو خاص حميمي فصار لا معنى للتقسيم الذي كان جاريا بين الفردي والجمعي، بين الذاتي والغير ذاتي (أي ذاك الذي يقرب من "الموضوعي "). وفي كل الحالات، لا مفر من إقرار أن " الحميمية " باتت من صنف الأشياء الغابرة، من أحوال الماضي وحكاياته. فأيامنا تجهلها تماما. لم يعد هناك أسرار وخفايا نحتمي بها ولا جزر نعتصم بها أو نختفي فيها. صرنا مكشوفين عراة على الدوام، َمَعْرُوضينَ تحت الشمس ونورها على مَرّ الأيّام. هُتِّكَت الأستار، أستارنا، ومُزِّقَتْ الحجب، حُجُبُنَا. إن انتفاء الحدود وانتهاك الحجب هما سببا انتشار الفوضى في جميع المجالات لأن الثوابت تزعزعت والقيم تَهَلْهَلَتْ والمقاييس اضطربت والمعايير ارتعشت، فثبت ما ثبت ولم يثبت إلا القليل القليل. وصرنا وعوالمَنا من الغابرين. ويا حسرة علينا وعلى العباد أجمعين!

تعليقات