وكان الإنسان

نواصل موافاتكم ببعض المقاطع من المقالة المطولة نوعا ما التي عنوانها " قيم على الغيم ". يحدثنا هذا المقطع الحامل لعنوان فرعي، " وكان الإنسان "، عن الانفلات الكارثي للإنسان الآلي.

                 وكان الإنسان 
                                    لمحمد مومن
           
              وها أن في المخابر إذن تُصْنَعُ اليوم، وليس غدا، كائنات لا تُشْبِهُ البشر إلا ما رحم ربي. ويَا وَيْلَتَنَا! لا، ليس في الزمن الوشيك ولا في الوقت القادم القريب، لا، في اللحظة الراهنة، على التَّوِّ، الآن، يتم صنع - يَا للهول! الإنسان " النِّصْف آلِي " و" النِّصْف حَيَوَانِي "- " النِّصْف بيُولُوجِي ". بل يمكنك القول إنه - شِبْهُ جَاهِزٍ. ويبدو أن أشباه البشر هذه آتية بما لم يستطعه الأوائل. والأوائل، إن لم نفهم بعد، هم البشر. إن ما بدأ يخشاه العلمَاء والبَحَّاثَة، وحتى الفلاسفة والمفكرون، هو ما سيصبح مُتَاحًا في المستقبل القريب، في غضون السنوات القليلة المقبلة، لأنواع كثيرة من " المَخْلُوقَات الآلِيَّةِ "، أي بكلام آخر "المَصْنُوعَات الرُوبُوتِيّة"، حيث ستكون قادرة على برمجة نفسها بنفسها فتَنْفَلِتُ انفلاتا تاما عن إرادة صُنَّاعِها وإِمْرَتهم : وأن تَتحرّر المصنوعات من صانعيها، ألا يعني هذا بالنسبة للإنسان النهاية، نهاية النهايات؟ سَتَنْفَلِتُ وستَنْقَلِبُ: سيصبحُ الصانعُ عبدا للمصنوع. وكيف نستغرب، والحالة آيلة إلى ما ستؤول إليه، من حلول يوم يصبح فيه المصنوع صانعا لمن صنعه؟ سنشهد غدا- وإن غدا لناظره قريبُ - انقلابا شاملا لما كنا نُسَمِّيهِ وهِيجِل "جَدَليَّةَ السَيّدِ وَالعَبْدِ " وهو لعمري ما من شأنه أن يُغَيّر تغييرا جذريا كل ما تقوم عليه قوائمُ مَنْطِقِنَا الذي عهدناها وأسُسُ " الدْيَالَكْتيكِيَّةِ " التي أَلِفْنَاهَا. 
            والسؤال الحارق هو: كيف وصلنا إلى هذا الوضع  الإنساني المُنْفَلِتِ، حيث انقلب فيه السِّحرُ على السَّاحِرِ والمَصنُوعُ على الصَّانِعِ؟ إنه وضع لا يمكن توصيفه. وحتى لو وصفناه فَرَضًا بالوضع " الفْرَنْكِشْتَايْنِي (نسبة إلى " فْرَنْكِشْتَاِيْنْ " ) فلن نَفِي بالمَعْنَى، ذلك أن أسطورة " مَارِي شِيلاَّيْ " ربما تكون حَكَتْ ثورة المخلوق على الخالق وتنبّأت بها ولكننا لا نتخيل أنها كانت تتخيل، وحتى في أحلك أحلامها المزعجة، أنه سيأتي يوم يكون له فيه سلطان مُطْلَقٌ عليه مهما كان تجاسره وتطاوله عليه. صحيح أننا ندهش حينما نرى في " برُومِثْيُوسْ الجَديدْ "، وهو العنوان الفرعي لرائعة " شِيلاَّيْ "، أن للخالق " فْرَنْكِشْتَاِيْنْ " سلطة على مخلوقه دون أن يكون له عليه نفوذ : " أنْتَ خَالِقِي وَأَنَا سَيِدُّكَ " (الفصل العاشر، ١٣٣). 
            من لا يندهش من هذا التجاسر وهذا التطاول؟ ورغم بهتتنا، نستشفُّ في الصَّانعِ نوعا من التفوق الرمزي والمعنوي، ذلك أنه يستطيعُ على الأقل مَعْرِفَةَ ما يمكن لمصنوعه أن يَفْعَلَهُ. أجل، ما أن أعاد العَلاَّمَةُ " فِيكْتُورْ فْرَنْكِشْتَاِين " الحياة إلى " الخَلِيقَةِ " " فْرَنْكِشْتَاِين " ( وهو اسم " اللاَّ مُسَمَّى ") حتى بدأ يَعِي فداحة ما صنعه : لقد صاغ " وَحْشًا ". ثم ها هو يفهم بعد فوات الأوان أن هذا الوحش، وبما أنه وحش، سيفتك بالناس وَبوحْشية هي من قبيل وحشية الوحوش لأنه ببساطة ليس إنسانا. لا شك أن هناك تساؤلا حائرا يعصف بورقات رواية " فْرَنْكِشْتَاِين " حول ماهية " التَّوَحُّشَ " و " الوَحْشِيَّة " و " الإِنْسيَّةِ " " و " الإِنْسَانِيَّة ": مَنِ " ا لوَحْش "، و مَنِ " الإِنْسان "؟ ولو رأينا في " الخليقة "  فَرَضًا إنسانا، فلا يمكنه أن يكون سوى إنسانا مُرَكَّبا، مُتَأَلِّفا من أجزاء وأشلاء جَمْعٍ غَفِيرٍ من النَّاسِ المَوْتَى : إنه كائن مُرَكَّبٌ. ولو تمَعَنّا في جوهره أكثر لتَبَينّا أنه في الحقيقة ليس من الإنسان وليس من الحيوان، لا من هذا ولا من ذاك. هو كائن مُنْفَلِتٌ،   لاَمُنْتَمي، خارجٌ عن الأجناس المُتَعارَفَة، لا أصول له معروفة. إنه لا يُصَنَّفُ. تُرَى، هل هو لَقِيطٌ؟ هو لَقِيطٌ وليس باللقيط. هو لَقِيطٌ، من وجه، بما أنه خَلِيطٌ لعديد الجُثَثِ، وعلامة لَقَاطَتِهِ أن ليس له إسم ( عَلَمٌ) يُمَيِّزُهُ. وهو من وجهة نظر أخرى ليس باللقيط لأن باعثه (للحياة)، مُوَلِّدَهُ ووَالِدَهُ، أو لنقل " أَبَاهُ " (وإِنْ باِلتَبَنِّي) هو " فْرَنْكِشْتَاِين ". وهذا الأب بعد أن ولده أو تَبَنَّاهُ رفضه، أنكره ولَفَظَهُ. إن اللَّقَاطَةَ والتَّبَنِّي هما ما يبنيان لما يَعْرِفُهُ ويُعَرِّفُهُ علماء التحليل النفسي وعلى رأسهم " سِيغْمُونْ فْرْوِيْد " ب " الرِّوَايَةِ العَائِلِيَّةِ "  لهذا نرى " الخَلِيقَةَ " تفشل في الانتماء إلى جنس مُحَدَّدٍ ورغم مساعيها الجهيدة والعديدة للتقرب من البشر تجد نفسها دوما مكروهة مرفوضة ومنبوذة، وهو ما يفسّر تحولها إلى وحشٍ قَتاَّل فَتَّاكٍ، سَفَّاحٍ سَفَّاكِ دماءٍ.   
          وإنما الخليقةُ تقتلُ لأنها لقيطةٌ ولا تنتمي إلى البشر، لا في سريرتها ولا في سحنتها، لا في " دَخِيلَتِها " أو طويَّتِها ولا في مَلْمَحِها أو مَرْآها. لا الأصلُ ولا المظهر، لا الفَصْل ولا المَنْظَر، لا الجوهر ولا الشكل، لا الباطن ولا الظّاهر، لا الهويّة ولا الهيأة، لا شيء يؤلف بينها وبين البشر. في الحقيقة، هي ليست في حقيقتها إنسانا ولا حيوانا، لا هذا ولا ذاك : إنها من مَهْجُورِ الكائنات ووَحْشِيِّهَا، لا تُصنَّفُ ولا تُرَتَّبُ، وسلوكها أو " تَفْكِيرَهَا " لا يُقَنَّنُ ولا يُقَوَّمُ. كيف يمكنها أن تخضع لقوانينِنا ونواميسِنا في ما هي ليست من آدَمِيِّ المخلوقات ولا حتى من عجائبها : مَنْ أَهَّلَهَا لتصبح من الإنس ومن رَبَّاهَا لتصير من الإنسانية؟ فما أن أَحْيَاهَا مُحْيِيهَا حتى أهملها، مُلْقيا بها في غياهِبِ الوجودِ ومَجاهِل الجَهْل. لمحضنها، لم يكفلها، جافاها، هجرها، عاداها، وانتهى منذ البدايات أن أبعدها ونفاها. ولأن المخلوق " فْرَنْكِشْتَاِين " من غرائب المخلوقات، نجده غريبا عن منطق البشر، خارجا عن أعرافهم، فيستحيل أن تنطبق عليه مقولاتنا وقيمنا.
            ولو بحثنا عمّا يُميِّز هذا المخلوق عن خالقه لوجدنا أن الفرق يكمن في الوعي، وهو هنا وعي شقي، أي معرفة غير سعيدة : بكلام آخر، الفارق بينهما هو " الذكاء " إذ يظل الخالق في قصة " مَارِي شِيلاَّيْ " عَلاَّمًا عَلِيمًا، يَعْلَمُ مَا لاَ يَعْلَمُهُ المخلوقُ، بل إنه عِلْمٌ مُتَعَالٍ. في المقابل، يبقى " فْرَنْكِشْتَاِين " كائنا لا أخلاقيا، بدائيا، قوةً من القِوى المُتوحِّشةِ، شبهِ " حَيَوَانِيَّةٍ " وما هي بالحيوان، وبالتالي فهو قوةٌ لاَاجْتِمَاعِيَّة بالطّبع ( ضديد فكرة ابن خلدون الأولى : الإنسان اجتماعي بالطبع ) . إنه في هذا كلِّه عكسُ البشر: مخلوق لاَ أَخْلاَقِيٌّ، فِطْرِي. فما كان علينا أن نستغرب أن سَاحَ وتَحَرَّكَ في عوالم تنتسب إلى قِيَمِ مَا قَبْلَ قِيَمِ الخيرِ والشرِّ وذلك لجهله بها. ربما كانت قِيَمُ مَا قَبْلَ القِيَمِ صورةٌ من صُوَرِ غيابِ القِيَمِ وانْعدامها، ربما؟ ما يبدو شِبْهَ مُؤَكَّدٍ أنه، بصورة من الصور، كائنٌ بِدائيٌّ. بل هو من كائناتِ البِداية والنّشأةِ، نشأة الفرد ونشأة الكون، ترى فيها الميثولوجياتِ الإغريقيّةِ الأولى، زمن " الفَوْضَى"، أي زمن ما قبل أن يكون " الكَوْن "، قبل أن يَتَكَوَّن ويظهر، فترة تسودها الأرباب " العَمَالِقَة " ويتزعمها " كْرُونُوسْ " (إله الزمان)، هؤلاء الأرباب التي ستحاربها " الآلِهَةُ " حربا بلا هوادةٍ لغايةِ إزالةِ الفَوضى وتَسْوِيَةِ نظامٍ كونيٍّ مُتناغِمٍ، ثم ستَخْلُقُ، بعد الحربِ عالمَاً مُنْسَجِمًا مُتَّسِقا مُتَناسِقا، بِناءً موسيقِيًّا، هَرَمًا مُهَرْمَنًا - سَنْفُونِيَةً - يتَّسِمُ بالتَّنَاسُبِ والتَّوازُنِ. والبَيِّنُ ها هنا أنه حتى وإن غامرنا في غمار هذا المنطق الذي يرنو إلى تَكَوُّنِ الأكوان، وأبحرنا في حكايات الزمن السابق لميلاد العوالم ونشأتها لرأينا أن هذه "البِدَائِيَّةَ" تمنع " المَخْلُوقَ" من الارتقاء إلى سماء الأخلاقيات. ولا نَظُنَّنَ أنه من صنف الكائنات "الزَّرَدَشْتِية" التي تسير حسب " نِيتْشَه" بمنطق " مَا بَعْدَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ " : وكيف له أن يتجاوز هذه القيم وهو لا يعرفها؟ لن تَسْتَطِيعَ القول إن للمخلوق منطقَ رفضٍ أو تحدٍّي. هو لا محالَةَ قَاتِلٍ، ولكن جرائمَهُ لا يمكن تَقويمَها بِقِيَمِنا ولا فَهمها بمفاهيمِنا. بكلام آخر، لن تستطيع تفسيرها بمنطقنا. ألم يأت إلى الحياة من عوالم الموت وعلى جثث الموتى؟ علاقته بالموت غير علاقتنا بها نحن البشر العاديين. 
         إن خطأ " فيكْتُورْ فْرَنْكِشْتَاِين " الفادح يكمن في تعامله مع " المَخْلُوقَة " بمنطقٍ بشريٍّ معتبرا إياه كائنا إنسانيا خاضعا لنواميس الإنسانية وقواعدِها. والحال أنه ليس منا، ليس من حياتنا وتفكيرنا وتصرفاتنا ولا من شعورنا وحاجاتنا ورغباتنا. هناك سوءُ فهمٍ، هناك سوءُ تقديرٍ، هناك محاولةُ رؤيةِ المخلوقِ حسب رُؤى الخالِقِ، وإنه، لَعَمْرِي، بَلاَء، وأي بلاء ! إن الكارثة الكبرى، إن الطامة العظمى، أن تَرَى اللاَّ انْسَانِيَّةَ من منظور الإنْسَانِيَّةِ. في " فْرَنْكِشْتَاِين أو برُومِثْيُوسْ الجَديدْ "، إدانة واضحة فاضحة لل " الأَنْسَنِيَّةِ ". ومن عَلْيَاءِ" انسانياته ينظر الخالق إلى مخلوقه فلا  "يَرَاه ". نعم، لا يرى أنه لم يعد سيدا آمرا إنما عبدا مأمورا حتى وإن كان خالقا. وبما أنه أعمى لا يرى سيظل في ضلاَلِهِ. لن يعود عن غَيِّهِ، لن يَثُوبَ إلى رشده، لن يَتُوبَ. ولهذا سنراه، سنرى كيف أنه لا يرى.

تعليقات