كيف أحببت المطالعة


عز الدين المدني


أحاسب نفسي وأعترف بان دروس الفلسفة التي تلقيتها قد تكون هي التي علمتني الا أطمئن الى البديهي ولا الى المتداول المعروف وكأنه حقيقة لا يمكن الشك فيها ولا مراجعتها ولا الى ما اتفق عليه الاجماع ’ فيجب عند ذلك اعادة النظر والتبصر وقلب الاشكالية على وجوهها وتحليل أجزاها وكلها ككل . تلقيت هذه الدروس وناقشتها نقاشا مستفيضا مع من علمني اياها . فكانت أول التدريبات الفكرية وانا في بداية الشباب ’ رغم ما قرأته من الأعمال العربية العريقة وكذلك الأعمال الفرنسية المُثلى ومن بينها قبل ذلك بسنوات قليلة  أعمال الروائي العظيم هنري دي بلزاك بتوجيه من معلمي محمود بوعلي الذي كان من المعلمين المعدودين في المدرسة الصادقية الصغيرة ولا سيما في اقسامها الابتدائية الأولى الى جانب مادام شريفة المسعدي رحمهم الله جميعا .

كنت أنشد طريقي وأتلمسه ....فطالما كنت أختلف الى مكتبة العطارين - هكذا تسمى يومئذ - أيام العطل المدرسية في فصل الشتاء ثم في فصل الربيع ثم القفز فجأة الى فصل الخريف ’ وأضع فصل الصيف بكامله بين قوسين لأنه كان بالنسبة الي هو فصل التمتع بالبحر ’ والقراءة ’ والراحة في العشايا ذات النسمات شبه الباردة بعد القيظ والعرق والتجوال على الشاطئ تحت شمس حارقة ...

كنت في مكتبة العطارين أطلب كتبا كانت قراءتها لا يقدر عليها الا قراء أكبر مني سنا’ ككتاب الحيوان للجاحظ مثلا  فنسخت منه صفحات كثيرة ’ فحفظتها عن ظهر قلب ’ وما زلت أحفظها الى هذا اليوم وانا في هذه السن . وهكذا تدرب لساني على لغة عربية صافية عالية ’ ومما أهلني الى كتابة قصص قصيرة عوضا عن تحرير انشاء يطالب بها استاذ العربية في المعهد الثانوي

أما الكتب الضخمة التي كنت أطلبها في المكتبة فاني أتذكر كتاب البؤساء لفيكتور هيجو وهو في طبعة فاخرة ’ حمراء الغلاف مخططة بخطوط عميقة مذهبة ’ والكتاب في داخله محلى بصور القلم في كل فصل من فصوله . ومازلت الى هذا اليوم أتذكر صورة الطفلة الصغيرة كوزات التي تحمل سطلا من الماء ’ ثقيلا وهي ابنة الفقيرة العاهر فونتين . كل هذا رغبني في مطالعة الرواية وزادني لذة على لذة  في القراءة وعلى التمتع بالصور التي صورها الفنان غوستاف دوري فيما أظن .

  وبعد سنوات طويلة وأنا في باريس أتجول بالقرب من رصيف نهر السان حيث تباع الكتب القديمة  والمستعملة  شاهدت نسخة من ذلك الكتاب كتاب فيكتور هيجو فسألت عن ثمنها فأجابني البائع بأنها نسخة من الكتاب الأصلي  مطابق في طبعه ونشره وبأنها قديمة نفيسة نادرة وثمنها خيالي باهظ جدا عند ذلك تذكرت قراءاتي في أول شبابي في مكتبة 



تعليقات