مَوْجَةُ شَجَنٍ

مَوْجَةُ شَجَنٍ


محمد مومن 


ها أننا ننشر المقطع السادس من المقالة المسمّاة " غِيَمْ عَلَى القِيَم "، رحلتنا في تيار ما يسمّى " العَابِرُ للأنْسَنِيَّةِ" ( " تْرَانْسْ يُومَانِيسْمْ ") وموجها الهادر.

ما يُلاَحَظ بادئ ذي بدئ أن في هذه الحكاية المخيفة للإنسان الآلي، سيصير المخلوقُ، ويا لَلْهَوْلِ! خارجا عن السيطرةِ، سيطرة خالقه. سيتمرّد المصنوع على صانعه. فهو الذي سيتحكم في نفسه دون أن يكون للإنسان عليه سلطان. وهو الذي سيبتكر شفراته بنفسه ويبتدع أسراره بدون علم ولا معرفة من طرف الإنسان- باعثه وخالقه. فمن مصنوع صار صانعا، لنفسه وللآخرين. ما يجب علمه هو أن الحياة في الأرض ستتغير وملامحها ستتبدل بشكل يصير فيه الأنسان غريبا عنها وعن نفسه. سيغرب الإنسان.
والسؤال الملح هو: ما عساها تكون مواصفات الفنون وصفاتها في هذا العَالَم المُنْفَلِتِ تماما عن سيطرة الإنسان؟ أَيُّ مسرحٍ، إن بقي هناك مسرح، سيكون قادرا على التعبير عن هذه الدنيا التي لا عهد لنا بها؟ هناك النَّائِحُون النّاعِقُونَ كالغِرْبَانِ الذين ما فتئوا يَنْعَوْنَ موت الفن الدرامي ويُعْلِنون عن نهايته، بنفس النَّبَرَات والعَبَرَات التي أعلمونا بها موت الفن : وَلَنَا أن نُراجع في هذا السّياق ما وقع للفن التّشكيلي ! وفي هذا الصّدد، لنا أن نتساءل هل أن من باب الصدفة أن يكون " هِيجِلْ " أول من نعى إلينا خَبَرَ موتِ الفَنِّ؟ ولم تنته الحربُ العالميةُ الثّانيةُ حتى كان " الاَّ فَنُّ " هو الفَنُّ. وتشهد الستينات أن " اللاَّمَعْنَى " أصبح قيمة جمالية عليا في حين أن " التَّافِهَ " ارتقى إلى مصاف المُثُلِ المنشودة وأن " التَّفَاهَةَ " ازدهرت فصارت من المبادئ السّامية التي رفعتها نادت بها العديدُ من التّجارب والتيارات الفنيّة المعاصرة ورفعتها شامخا كالأعلام على رؤوسها نيران. ولم يسلم الأدبُ - ولا حتى النقد الأدبي - من مقولات " الاِنْحِدَارِ" كنزعة فنية و " الانْحِطَاطِ " كرؤية فكرية. فتهاوى حتى عَادَى " الأَدَبيَّة " وتدهور حتى جَافَى " الشِعْرِيَّة ". وفي نفس السياق وبِنَفْسِ النَّفَسِ، عرف المجال الدرامي مثل هذه المغامرات التي آمنت بموت الفن فَتَفَّهَتْهُ أو تَفَّهَتْهُ فأماتَتْهُ. فما هي إلا أيام معدودات تلت الحربين العالميتين حتى ثار المسرح على المسرح. فأحرق مِيثولوجيّاته وهدّم أيقُوناته ونسي أصوله وحطّم نَحْوَهُ وقواعده السائرة وتغافل عن إنشائيّاته السائدة طيلة آلاف السنين فصار " مَسْرَحًا مُضَادًا " يتّخذ - ليبْني مسرحه - وجوها مختلفة من نبع دنيا " اللاَّ مَسْرِحِ ". ألم نعرف ما عُرِفَ ب " مَسْرَحِ الطَلِيعَةِ " أو " مَسْرَحِ العَبَثِ " كما شاء لبعضهم تسميته؟ ثم إننا تدربنا على حب مَسارح " المَا بَعْدَ الدْرَامِي"، التي انتصرت ل " المَسْرَحِ اليَوْمِي "، ذلك الذي يُمَسْرِحُ لا فقط لما هو عادي يومي ولكن أيضا لما هو " يومي- عادي". وكان " المَسْرَحِ في البَيْت " وبان وظهر" مَسْرَحِ الحَدَثِ " أو بالأحرى " الاسْتِحْدَاث " – ذلك الذي عُرِف أيضا بمسرح " الهَبِينِينْغْ " أي ذلك الذي يفتعل الحدث المُفَاجِئ المُرْتَجَل- وما هو بالمُرْتَجَل وأنما هو من المُنْجَزِ المُبَيَّت المَقْصود. وبرز إضافة لكل هاته الأنواع المسرحية " مَسْرَحِ الإِنْجَازِ " (موسوم افْرَنجِيًّا ب " البَرْفُرْمَانْسْ" )، إلخ. هل نقولها؟ لِنَقُلْها : إن هناك ما يشبه الموجة التي حملت المسرح فصبغته بما يشبه " الشَّجَن " والحَزَنَ ( يتبع ).

تعليقات