الإنْسَانِيَّةُ وَحْشِيَّةٌ

الإنْسَانِيَّةُ وَحْشِيَّةٌ
                                       لمحمد مومن

ها نحن نصل في مقالتنا المعنونة ب " غيم على القيم " إلى المقطع الخامس. وقد رأينا أن نجعل له عنوانا فرعيا أسميناه "  الإنسانيةُ وَحْشِيّةٌ ".
     

          سنتفرّج على وهم الإنسان القديم الذي يجعله يظن أنه مازال السَيِّد الآمر. سنرى ما سنرى، سنرى كيف سيحاول منع " مَأْمُورِهِ " المُتَمَرِّد من اقتراف الجرائم بحق البشر " الأَبْرِياَءِ " عَلَّه يُكَفِّرُ، وبكل السُّبُلِ، عن ذنوبه : أليس هو خالقه؟ إنه هو إذن السببُ والعلّةُ الأولى. من أجل هذا، سيسعى  فِكْتُورْ جهده لقتل فْرَنْكَنْشْتَايِنْ هذا الكائن الغريب الذي بعثه من جديد إلى الحياة الدُّنيا، هذا الذي حَشَرَهُ ثم أنْكَرَهُ : أجل سيكون  فِيكْتُورْ الخالقُ في مرحلةٍ ما من مساره قاتلا. وإنْ بالقوة، وإنْ افتراضيا. أليس هو من منحه الحياة؟ لقد وَهَبَها له وها هو يسعى إلى سَلْبِها منه : لَهُ عَلَيْه حقُّ الموتِ والحياةِ. وجودُه خاضعٌ لمشيئته رهن إشارته. وهل نجانب الصواب لو زعمنا أن في رواية مَارِي شِيلاَّيْ مازال للخالقِ وَهْمُ السّيطرةِ على المخلوقِ؟ ألم نَرَ، ونحن في دهشةٍ من أمرنا، أن " فِيكْتُورْ " بعد أن منح مخلوقَهُ الحياةَ مَا بَعْدَ الحياةِ - بمعنى الخُلْدَ؟ - يجتهدُ ويُجَاهِدُ لِسَحْبِها منه. لماذا؟ لأنه هو من المَيِّتِين في حين خليفته فْرَنْكَنْشْتَايِنْ من المُخَلَّدِينَ. أَيُعْقَلُ هذا الذي يَقَعُ؟ كيف للمخلوق أن يبقى بينما خالقه يفنى؟ هذه " ثَوْرَةٌ "، بمعنى دورةٌ شمسيةٌ كاملة ) ٌثلاث مائة وسِتُّون درجة) إنها انقلابات تامة شاملة، إنها انجرافات وزلازل كونية لا نقدّر على تقديرها. حقا لا يمكننا تصورها أو تخيّلها لأنها تَتَجاوَزُ تصَوّراتِنا وتخيُّلاتِنا جميعها. ما نَقُولُهُ تَقُولُهُ الحكايةُ، وبوضوح، بما أن " فِيكْتُورْ " سيكون أوّل من سَيَموت. وأن يُعمِّر المَصْنُوعُ أكثرَ من الصَّانِع، فذلك عَيْنُ اللاَّ مَنْطِق. إنها بعثرةٌ تامّةٌ لمنطِقِ السَّبَبِيَّةِ والتَّراتُبِيَّةِ : لا أَفَضَلِيَّةَ ولا أسْبَقِيَّةَ. لقد ذهبت كلُّها أدراجَ الرِّياحِ. وفي الأخير، ما الذي تقوله رواية مَارِي شِيلاَّيْ؟
           من بين ما تقوله أن هناك حكايةُ نَدَمٍ : هناك تَحَسُّرُ الخَالِقِ على خَلْقِهِ. أَن تَمْنحَ الأَبدِيَّةَ لِنَفْسٍ فانِيَةٍ، ذائقةٍ الموتَ، فَقَد اقْتَرَفْتَ إثما كبيرَا، وأَتَيْتَ ذَنْبا عظيما. لقد أخطأتَ وما كان عليك أن تخطأ  فكان خطؤك لا يُغْتَفَر. هي فِعلةٌ شَنِيعَة بشِعَة مقامُها مقامَ جريمةٍ شَنْعَاءَ، عِقابٌها المَوتُ وجزاؤها الفناءُ. أن تَهِبَ الحياةَ لِمَنْ ليس خالدا، لمن هو مَيْتٌ لا مَحالةَ، أي لغيرِ أهلِها، أن تُعْطِيها لمن لا يستحقُّها، فقد ظَلَمْتَها. لكلّ جريمةٍ عقابٌ، وجريمةُ إعادةِ الحياةِ جَزاؤُها فِقْدانُ الحياةِ : المَوْتُ. الموت الموت لمن تَطاول على الموتِ فطمع في حياةِ ما بعد الموتِ. لا حياة لمن دَنَّسَ المُقَدَّسَ : أليس الموتُ من المقدَّساتِ؟ ولهذا سنرى " المَخْلُوقَ " يطارد مَن أنشأه وأحْياه فيقتل كل أحبّائه وأقربائه ( وِيلْيَامْ، الأخُ الأصغرُ المُحَبَّبُ؛ كْلاَرْفَالْ الصديقُ الحميمُ المُقَرَّبُ؛ إِلِيزَابِيثْ الخطيبةُ المُكرَّمةُ والخليلةُ المُعزَزةُ)، ثم ينتهي، في الختام، فيُضْمِرُ اغتيالَ مُنْشِئِهِ نفسِه ( فِكْتُورْ ). إن الذي سيلقى حتفه، يموت كما أنه يُقْتَل في نهاية هذي الحكاية التي ليست ككل الحكايات هو " فِيكْتُورْ، فِيكْتُورْ فْرَنْكِشْتَاِين "، العَالِمُ العلاَّمَةُ، مُحْيِي المَوْتَى، مَسِيحِ هاتيك الأزمنة الرهيبة الكريهة. فالخاِلقُ هنا هو الذي يستحقُّ الموتَ. لقد بَيَّتَ قَتْلَ مَخْلوقه دون أن يبلغ مبتغاه وسيفشِل. لن يكون له ما نَوَى ولا ما إليه سَعَى، سيموتُ هو قبل أن يَهْلَكَ مَنْ يُطَارِدُ. ما أن يَخْلُقُ الخالِقُ ما يخلُقُ يفقِدُ معنى وجودِه ويصير إلى الزَّوالِ : يصير حقا، حسب عبارة " جَانْ بُولْ سَارْترْ "، "  كَائِنًا زَائِدًا "، لا حاجة للعالم إليه، ولا رغبة للناس في وجوده بينهم. فالموت إليه أَنْسَبُ واختفاؤه مِنْ على الأرضِ به أَلْيَقُ. ولكن نهايةَ الخالِقِ ليست النهاية بما أنها تُوَلِّدُ في " فْرَنْكِشْتَاِين " رغبةً جَادَّةً في الانتحارِ. فالمخلوق يتسبَّبُ في موتِ الخالقِ ولكن أليس الخالقُ هو الذي يبعثُ بالمخلوقِ ويَحُثُّه على البحثِ عن الموتِ؟ نحن إذن حيالَ جدليةِ موتٍ لا تَنتهي تحمِلُ باستمرارٍ الكائناتِ، خالقة ومخلوقة، إلى الموت : وكأننا بالفناء هو أُفُقُ الجميع. وحسب ما نفهمه فإن بين " الوَحْشِ " ( وهل هو وحش حقًّا ؟) و" الإنْسَانِ" (ويا تُرَى هل هو إنسانٌ حقًّا؟) تَقَاتُلٌ ذو صبغةٍ مأساويَّةٍ لأنه لا يمكن للقُوَّتَيْنِ المتَصارعتين أن يتعايشان في نفس المكان. لا بد أن تَقضِي إحداهما على الأخرى. لا ريب في أن قصة " فْرَنْكِشْتَاِين " هي حقا تْرَاجِيدِيَا كما يفهمها رُولاَنْ بَارْتْ أي فضاء لا يمكن أن يحتوي ويَتّسِع لِقوّتين مُتنازعتين ويَتّسِع لهما. لا بُدَّ لإحداهما أن تَزولَ لأنه يستحيل عليهما البقاءُ مع بعضِهِما في ذات الآن. لا مجالَ لتواجُدِهِما، لا مكانَ ولا إمكانيةَ لِتعايُشِهما : لا " مَعَ " أو " مَعِيَّة " مع التراجيديا. إما الخالِق ( الوالِدُ ) وإما المَخْلوقُ ( المَوْلودُ ). فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون الغلبة لكليهما، بل لا بد من غالبٍ ومغلوبٍ. 
            وعلاوةً على أنهما قُوَّتان تُجَسِّدَان، في حكايتنا، تَناحُرَ الإنسانيَّةِ والوحشيَّةِ وتُشَخِّصَان نِزاعَ نِزْعَتَيْ الخيرِ والشرِّ نراهما بجلاءٍ تُمثِّلان تعارُكَ الحياةِ مع الموتِ الذي ينصهرُ في آفاقٍ وجوديَّةٍ لا تقبَلُ المَنْطِقَ الجَدَلِيَّ أي أنها تتلوَّنُ بألوانٍ ميتافيزيقيَّةٍ تُجَافِي كلَّ جَدليَّةٍ، فتكتفي بكونها ثنائيَّةً لا تعرِفُ ولا تَعْتَرفُ بالتَّجاوُزِ: لا نُغامِرُ ولا نُقامِرُ إنْ قُلنا إنَّها رُؤيةٌ تقوم على التَّضادِ ولا تجتهِدُ في نَقْضِ التَّناقُضِ والمُتَناقِضاتِ. لا تَصالُحَ ولا تَسامُحَ، لا تجاوُزَ ولا توافُقَ. إنَّ الصِّبْغة المأساويةَ للصراع لا غُبارَ عليها : فالمسألةُ مسألةُ بقاءٍ أو فَناءٍ. حتى وإن كنا لا نَتَّفق حول حقيقةِ القُوى التي تحمل قِيَمَ الخير والشرِّ- هل هو الإنسانُ أو الوَحْشُ؟-  فَيَصْعُبُ أن نختلف كَوْنَ هذا الصراعَ له صدًى أخلاقيًّا. ولكن، من ناحية أخرى، سَمَاعُنا لِهذا الرَّنِينِ الأخلاقيِّ لِقصَّةِ مَارِي شِيلاَّيْ لا يمكنه أن يُبَرِّرَ أبدا أننا لا نرى، أن نَعْمى عن رؤيةِ الآفاقِ الوُجوديَّةِ والميتافيزيقيةِ لِدْرَامَا روايةِ " فْرَنْكِشْتَاِين "،  التي تبقى رؤيةً لاَجَدَلِيَّةً، لا تنْشغِلُ البَتَّةَ بلحظة التَّألِيفِ ومرحلةِ التًّآلفِ. والأجْدَرُ بنا أن نرى فيها رُؤْيَةً مُنْدَرِجَةً في ما هو جَدْوَليٍّ وليس جَدَلِيًّا.، أي في منطق يقوم على التَّبايُنِ والتَّنافُرِ وبالتَّالي التَّغايُرِ والتًّمَايُزِ وليس على منطِقِ التَّجاوُزِ، تجاوز الثُنائيَّاتٍ وتخطِّي المتناقضات. ربّما كنّا هنا في منطقٍ ما قبلَ سُقْراطِيٍّ، في سِياقاتٍ فكريّةٍ من صِنْفِ  تفكيرِ بَرْمِينِيدِسْ. رُبَّما. ويبقى على كل حال من الصعب جدا أن لا نلمح مَلامِحَ تفكيرٍ شبيهٍ، بصيغةٍ من الصيغ، من ذلك الذي يُسمّى التّفكيرُ القائمُ على المُفَارَقَاتِ، الذي ينهض على المُتَنَاقِضَاتِ والثُّنائيَّاتِ المُتَضَادَّاتِ دون محاولةِ تجاوُزِها. ولا شك أن الطرافة من الخصائص والمِيزات البَيِّنة لمثل هذا الأسلوبِ في التَّفكيرِ. ما الذي يعنيه مثلُ هذا الكلام؟ يعني أن رواية " فْرَنْكِشْتَاِين " ما برحت تُلَمِّحُ إلى أن الموت هو فصلُ المَقالِ في ما بين الخيرِ والشرِ من صراعِ، وهو ختامُ ما بين الموت والحياة من أَبَدِيِّ الخِصامِ. فإنْ جازَ التَّجاوُزُ، فلا يَجُوزُ إلاَّ في العَدَمِ الذي لا يعرف له بدايةً ولا نهايةً. وما الحياةُ في المقابل إلا زمنٌ زائلٌ قصيرٌ قِصَرَ البًّرْقِ الخاطفِ، لها ما لِوَمْضَةٍ من الوَمَضاتِ سرعان ما تَنْطفيِ، تَنْجَليِ وتَمَّحِي، ما أن تَبِينَ حتَّى تَخْتَفِي وتَنْتَهِي. تَخَالُنَا أمام سرابٍ خُلَّبٍ. وإن أردنا أن نقولها هكذا، بلا إطالةٍ ولا إفاضَةٍ، إنّها مُعْجِزَةٌ. الحياةُ مُعجِزةٌ لأنها مُخْتَطَفَةٌ مِنَ المَوْتِ، مُقْتَطَعَةٌ مِنَ العَدَمِ. فهي مبدئيًّا في مقاومةٍ أبديًّةٍ دائبةٍ لكنها بالضرورة دائما فاشلةٌ، رغم أنها لا تَسْتَسْلٍمُ أبدا. يجب علينا أن نؤمن أن الكينونة استثناءٌ بينما العدمُ هو القاعدةُ. والقولُ إن العَدَمَ هو مصيرُ الكائنِ فتلكَ العَدَمِيَّةُ عَيْنُها، ولكن ما العملُ لمَّا يكون هذا القولُ هو المقولةُ التي يَنْبَني حسْبَها الخيالُ السَّرديُّ لرواية " بْرُومِثْيُوسْ الجَديدْ " (وهو العنوان الثاني أو الفرعي لرواية مَارِي شِيلاَّيْ، " فْرَانْكِنْشْتَايِنْ " ) ويَتَبنّاها كحقيقة لا جدال فيها؟ أجل حكاية هذه الرواية تَبْحُر في العدميَّة بما أنها تنظر نحو آفاقٍ تُعادِي الجدليَّةَ : تنتهي أحداثها بتَناقضِ المُتَناقضات التي ابتدأت بها فلا شيء يتغير: الحياةُ حياةٌ والمماتُ مماتٌ. لن نفرح أبدا فنرى الكينونة تنبثق من اللاَّ كَيْنُونَةِ- أي من العَدَمِ. أليس هذا بعضا من ما كان يعنيه بَرْمِينِيدِسْ، الفيلسوف الإغريقي المنعوت ب " مَا قَبْل سُقْرَاطْ " بقوله : " اللاَّ كَائِنُ غَيْرُ كَائِنٍ " و" الكَائِنُ كَائِنٌ " ولا يمكن له أن لا يكون إن كان كائنا. وعكس هذا صحيح : كيف لِلاَّ كَائِنْ أن يكون وهو غير كائن؟ " أَكُونْ أَوْ لاَ أَكُونُ  " : لقد قالها هَامْلِتْ، ابن  شَكْسْبِيرْ. 
                  وما يتَّضِحُ من هذا أن مثل هذه الرؤيةَ الأَنْطُولُوجِيَّةَ لا ترى أنَّ تجاوزَ التّناقضَ لأجل الفوز بالتآلف جائز أو لازم : فما المانع من بقاء التناقضات متناقضات؟ فالتجاوز تصالح، والتصالح ضد التصارع. لا يمكن أن يكون هناك توافق أو تلاقي بين الموت والحياة أبدا. مصير كل كائن وقدره العدم لأنه انعدام للكينونة. وله علاوة على هذا جميعه أسبقية أَنْطُوُلوجِيَّة : تأتي الحياة، بما هي وجه من وجوه الوجود، من ليل العدم وتنتهي إلى ليل العدم. هي قبس من نور خاطف في ليل اللا شيء. تنشأ منه وتفنى فيه. إنها من التجليات الخاطفة المارة العابرة، طاقة سرعان ما تشتعل وتلتهب فتحترق وتنطفي، كشهب تلمع وتختفي في ليل الأبد وعتمة الأزل. ولهذا عبثا تبذل طاقتها في مقاومته. وهي من زاوية النظر هذه في صراع أبدي أزلي. ولهذا يمكن القول إن ما يبدو لنا في قصة "مَارِي شِيلاَّيْ" من صنف الجدلي هو في الحقيقية بعيد غريب عنه لأنه يجهل التجاوز ويبقى سجين ثنائية الحياة والفناء، ويظل تباعا حبيس منطق الوجود والعدم، أي منطق ما لا يحتمل المنطق : أليس العدم هو العبث لأنه اللاَّ جَدَلِيَّة عينها؟ في الأصل الأصيل، لا منطق للموت. أي منطق للموت؟ لا منطق للموت. يُشَبَّهُ لنا أن له منطقا ولكن في الحقيقة لا منطق له. وما الموت، ختاما، سوى وجه جلي من وجوه العدم أي صورة من صور العبث. أجل، أليس العدم هو العبث عينه بما هو اللاَّ جَدَلِيَّة ذاتها؟ من ذا الذي ينظر إلى  الموت كشكل من أشكال التجاوز الجَدَلِي؟ هو، على العكس تماما، نهاية ما هو جدلي. ويبقي كذلك غير جدلي حتى في منطق الرؤى والفلسفات العدمية. نستخلص من هذا أن الآفاق المنطقية التي تندرج فيها أحداث قصة " فْرَنْكِشْتَاِين " لا منطقية أي لا جَدَلِيَّة. وما نفهمه من هنا جميعه أن الصراع بين المتناقضات، بين الخير والشر وبين الموت والحياة، يبقى صراعا مستمرا لأنه أزلي.   
    وإذ كان هذا شأن " فْرَنْكِشْتَاِين "، " بْرُومِثْيُوسْ الجَديدْ " ذاك، فما تراه يكون خَطْبَ حوارِ " الإِنْسَانِي " مع " العَابِر للإِنْسَاِني "؟ ( يتبع )

تعليقات