نهاية النهايات

نهاية النهايات
                          لمحمد مومن
      وها نحن نقدّم بقية مقالة " قيم على الغيم " التي عرضنا بعضا منها في مقطعين طويلين. وهذه المقطوعة الثالث عَنْوَنّاها كما نرى بعنوان فرعيّ : " نهاية النهايات ".  

          لا موت في أفق " مَا بَعْدَ الأَنْسَنِيَّة ". لا نهاية. من وجهة نظر هذه النِّحْلَة أو المِلَّة، انتهت النهايات. انتهت ربما لأن الأشياء بلا نهايات ومثلها كَافَّةَ الكائناتِ. وها  نحن معها في عهد " ماَ بَعْدَ المَوْتِ ". ها قد صرنا نحلم معها بعالم ستصبح فيه الشيخوخة وَهْمًا والمرض تَوَهُّمًا. يزعُمُ الأَطِبَّاءُ، أصحابُ " الإنْسَانِ المُضَافِ " أن " الشَّيْخُوخَة مَرَضٌ ". وهذا المرض، ككل مرضٍ، يُدَاوَى. ويبشِّرون بأنهم سيُداوونَه، طال الزمان أو قَصُر. وما أن تتغلب البَشَرِيَّةُ على الشيخوخة، ستقترب حتما من ممالك تَأْبِيدِ الحياة - من الخُلْدِ؟ كيف ظنَنَّا، ولو للحظة يتيمة، أن المعرفة والعلم والفن شُعَبٌ لا تَتَنَافَذُ؟ بالعكس، المعارفُ تَتَشابَكُ، وهي ما فتِئَت تنظر إلى بعضِها البَعْض وكأننا بعيونها تتغازل، العَيْنُ في العيْنِ. فكيف السبيل حتّى لا تنفتِح جميعُها على العالَمِ وعلى الحياةِ؟ الحَيَاة! وفي هذا العالم المُنْفَتِحِ انفتاحا لا نستطيع تصوّره راهنا، وفي هذه الدُنَى التي أصبحت نوافذ مُشَرَّعَة وشبابيك مُشْرِفَةً مُطِلّة على المَدَى الذي لا يعرف أيَّ مَدى، تَجِدَناَ أمامَ عوالم مَجْهولة جَهْلَنا لعالَم الموت والموْتى. وبما أننا نجهلها، ترانا نخافها. تُرى أَيّ مَكَانٍ سيكون للإنسان في هذه المَجَاهِل المَجْهولة وأَيّ سَكَنٍ؟ وهل مازال له فيه أصلا مكانة أو مكان؟ بل هل ما زال الإنسان إنسانا كما عرفناه قديما، وما بالعهد من قِدَمِ؟ لن تبق الأشياء كما هي وكما كانت. ستنقلب الدنيا فيصبح عَالِيهَا سَافِيهَا. ستَحْدُثُ تحولاتٍ لا يمكِنُنَا تخَيُّلها أبدا في جُلِّ مجالاتِ حًياتِنا، في المعارف والعلوم، في الصنائع والفنون، في-- أفكارنا وأفعالنا، في سلوكياتنا وعقائدنا، في كل شيء تقريبا. لن يبق ميدان أو مجال لن تَطَالُه الثورات. وفي هذه الدنيا المُنْقَلِبة المُتَقَلِّبِة هل ما زال للفكر والفن معنى في ذوْدِه عن حِمَى الانسان وانسانيته المهدَّدة؟ ما معنى أن تُدَافِعَ عن الانسان فيما هو آيِلٌ إلى الزوال والاضمحلال؟ أيّ  معنى؟ أليس من العبث الذي ما بعده عبث أن تسعى إلى منع من يجهد ويجِدُّ في بحثه عن الموت ويثابر على محاولات الانتحار؟ ستتغير القيم، ستتبدل العلاقات بين من سيبقى من البشر، سَتتحَوَّل المفاهيم وتُسندُ  للُّغاتأدوارٌ ومهماتٌ أخرياتٌ بما أننا سنتعايش مع كائنات آليّة ومصنوعات " روبوُتيِّة " ( من " الرُوبُوت " ). نحن ذاهبون، في الحقيقة، إلى أزمان سيكون فيها " اللّامُتَوَقَّع "، بمعني كل ما هو " مُفَاجِئ " وغير " مُنْتَظَر "، القاعدةَ التي ستحكم حياةَ النّاس وتَتَحكَّم في مصيرهم. نحن ماضين حثيثا نحو المجهول وليلِه الفاحم لأننا سنعيش باستمرار، في كل لحظة وآونة، في حَالَةِ حِلٍّ وتِرْحالٍ، في تَنَقُّلٍ وانْتِقالٍ مِمّا هو غير مُتَوَقَّع إلى ما هو غير مُبَرْمَجٍ. سنسفر باستمرار وَسْطَ المفاجآت، ونرحل من مفاجأة لِتَلْقَفَنا أخرى. وهذا الوضع هو لَعَمْرِي قمة المفارقات، لأنه من المفروض أننا نمشي بفضل ما سيتيحه لنا عجيبُ وغريبُ الثّوراتِ التّكنولوجية القادمة نحو زمن التَّحكم أكثر فأكثر في زمننا؟ ألسنا أبناء زَمَنِ " أَلْفَا غُو "، الوليدُ الآليّ من آخِرِ جِيلِ " الرُّوبُوتَاتْ " (سنة ٢٠٠٦) ومن تصنيع مصنع من المصانع التَّابِعة لمؤسّساتِ " غُوغِلْ "، هذه " الامْبرَاطُورِيَّة "، كما يُسمّيها "لُورانْ أَلِكْسَنْدَرْ" والتي يرى فيها " أكبر مؤسسة في العالم عرفها البشر منذ بداية التاريخ إلى يومنا هذا "؟ ألم يهزم "لِي- سِ دُولْ " بطل العالم مُنَافِسَه البشري في لعبة ال" غُو "، وهي لعبة مائة مرة أكثر تعقيدا من الشطرنج، أي لُعبةٌ تفترِضُ كي تُلْعَبُ وَاحِدا بِضَارِبِ مَائة حسَبَ تَنَامِي حِسَابِيٍّ أَلْغُورِيتْمِي"، مما يؤدي بنا إلى الرقم الهائل : واحد وراءه ٧٠ صفر وهو حسب ما يُقَدِّر علماء الفَلَكِ عَدَدَ الجُسَيْمَاتِ التي  توجد في الكون. وهو ما يُؤشِّر إلى بداية فقدان الانسان تفوّقه أمام الرُّوبُوتَاتْ؟ لا، ليس غريبا إن  كنا بدأنا نخشى تَصَاغُر هامِشِ حُرِّيَتِنا في ما سنأتيه من أعمالنا وأقوالنا، ونخاف تَنَاقُصَ تملّكِنا لرغباتنا وأهوائنا ولكل مظاهر حياتنا. والأغرب، هو تصديقُنا اللَّا مَحْدُودُ للحُلْم الحُلْوِ الذي وعدتنا به الحداثةُ، كوننا سنكون أسيادا لا نُضاهَى في صُنْعِ مصيرنا الحر، وأنها لن تُخْلِفَنا وَعْدَها فيه أبدا. وها أن ظنَّنا ساء بها كثيرا : ألا تكون تَنَكَّرَت لوعودها ونسٍيًتْها؟ قد يعسر فهم مثل هذه المفارقات والمتناقضات من الوهلة الأولى، ولكن لو فكرنا فتذكرنا أن للتكنولوجيا- كنسق ونظام- لها ديناميَّة تُمَيِّزها وقواعد تحكمها، لَبَانَ الأَمْرُ وربما سَهُلَ الفَهْمُ، أم حَسِبْنَا، يا تُرى، أن ليس للتكنولوجيا مَنْطِقٌ؟ هي نَسَقٌ، عالَمٌ مُتكامِلٌ متناسِقٌ، وهو مُتَحرِّكٌ أي سائرٌ في الزمن، له تاريخٌ، ماضِي حاضِرٌ ومستقبَلٌ : إنه " حَوَادِثٌ". وبالتالي فهو "دْرَامَا" بما هو أحوالٌ ومقاماتٌ. أزماتٌ  وتقلبات، عقد وانفراجات : دراما، نعم. وما هي إلا ومضات تضيء الآفاق وعواصف تقصف الأرض والسماوات. معجزات، نعم، وكوارث. التكنولوجيا تَوَابِع وزَوَابِع. ما الغرابة إن بَاغَتَتْنا بما لا يُفْرِح ولا يُسِرُّ من المفاجآت؟   
      لا شك أن شيئا ما سيبقى من الزمن الجميل الذي كنّا فيه أربابَ مَشيئتِنا، ولكن هل ما سيبقَى يستحِقُّ الذِّكر حقا؟ ما سينجو هو غَيْضٌ من فَيْضٍ، نَزَرٌ لَمَمٌ، ضَحْلٌ، تَافِهٌ، لا معنى له. وفي المقابل، وبما أننا تَوَّجْنا الكائناتِ الآليّةَ والصناعيةَ صاحباتِ سُلطةٍ وقَلَّدْناها الإمارَةَ وفوَّضنا إليها كل النفوذ فَسَتَحْكُمُ وتَتَحَكَّمُ في جميع مجالات حياتنا. سيكون سلطانُها بلا قيودٍ ولا حدودٍ. عهدُ سيطرةِ هذه الكائناتِ الصناعيةِ القادمةِ بسرعة البَرْقِ والمالِكةِ لذكاءٍ وقُدُراتٍ لا نعرفها ولا نتخيلها٢٩ ستجعل الحياة مفتوحة فتحا مُبِينا وإذا بها  بِلا شَوَاطِئ ولا ضِفافٍ : مثال من ألف، بل من آلاف ل " رُوبُوتْ " عام ٢٠٠٧ قدرة اشتغال مُقَدَّرَةٌ ب١٨٠ ألف ضارب ١٥٠ عملية في الدقيقة الواحدة. جُنُون!
            سنعيش في عالَم سيكون فيه كلُّ شيء ممكنا، ولكنّنا، نحن البشر، لن نكون فيه أسيادا أو مُسَيِّرِين وإنما مُسَيَّرِين وليس مُطَاعِين وإنما مُطِيعِينَ. هل سنكون عبيدَا؟ ليس هذا بِمُسْتَبْعَدٍ، هذا من الكَوابِيسِ المتوقَّعِ وقوعها. إنه من الرؤى المُرعبةِ والمُزعجةِ التي باتت أكثر من مُحْتمَلَة، بل قل أصبحت مُنْتظَرَةً. سَتَحْكُمُ الكائنات الاَّبَشَريَّة الدُّنيا وما فيها، ومَا أدْراكَ، ربما الكوْنُ كَافَّة؟ وسنطيعها ونُنَفِّذُ أوامرها وسَنَتَبعُ أهواءها ولن نخالف لها رغباتها، سنخضع لها في كل شيء، في كل زمان ومكان. ستنتهي حكايتنا كذوات فاعلة مسؤولة، لها إرادتها ومشيئتها، تصنع مصيرها وتنحت قدرها. سنكون سُفُنًا تَقَاَذفُهَا الأمواجُ في قلبِ الزَّوابِع والعواصِفِ والأنْواءِ، زَوَارِقًا ضاعَتْ قِبْلَتُهَا فهَامَتْ وتَاهَتْ ومَا اهْتَدَتْ. (يتبع)

تعليقات