الثقافي السياسي في فكر غرامشي


الثقافي السياسي

في فكر غرامشي


بقلم/ محمد المي

خيرت أن أبدأ بالكتاب الإبداعي قبل هذا الكتاب النظري لا لأسبقية الكتاب الأول في النشر

وهذا الكتاب صدر سنة  2016 وإنما لسبب إجرائي بحت في تقديري وهو أنه لا يمكن فهم دوافع اختيار جليلة عمامي لهذا الموضوع ليكون مادة للبحث والدراسة إلا بعد أن نفهم جليلة عمامي المبدعة إذ يمثل غرامشي لدى كل المثقفين منقذا من حيرة سؤال يطرحه كل مثقف على نفسه مفاده / ماذا علي أن أفعل ؟ ذلك أن قرامشي أن

الدولة تتكون من قوى كاسرة (الجيش والبوليس والقضاء التي يحل محلها إبان الأزمات منظمات خاصة كالميليشيات..) ومن أجهزة تصوغ التشريعات وتطبقها (البيروقراطية، الحكومة، البرلمان) وهي الأداة التي تؤمن بها طبقة ما سيطرة على الطبقات الأخرى، وهي تتكون كذلك من أجهزة تغلب عليها الأيديولوجية (المدرسة، الكنيسة، الأحزاب السياسية..) وتؤمن للطبقة المسيطرة رضى الطبقات الأخرى وقبولها بقيادتها لها. غير أن ما يؤمن توحيد هذا كله هم المثقفون الذين تنميهم كل طبقة لتؤمن هيمنتها عبرهم. فمهمة المثقفين هي نشر تصور الطبقة للعالم وتأكيده في وجه مثقفي وتصورات طبقات النظام القديم أو النظام الذي يرهص بالولادة

في فاتحة كتابها تعلن جليلة عمامي عن دوافع تأليفها لهذا الكتاب تقول / إذا مانظرنا في واقع الثورات العربية اليوم ’ لاحظنا أنها شبيهة الى حد كبير بواقع الثورات الاجتماعية في أروبا من غياب القيادة الثورية وثورات مضادة عن طريق حرب ليبرالية ’ وفشل الحراك الثوري في تأمين مسار ديمقراطي ثوري وهو ما سماه أنطونيو غرامشي ب"القديم يحتضر والجديد لم يستطع أن يولد بعد "

لقد تمثلت جليلة عمامي عمق السؤال الفلسفي حيث تعاملت مع الفلسفة تعاملا وظيفيا وان شئنا استثماريا كيف يمكن أن نفهم الواقع انطلاقا من السؤال الغرامشي ؟ هل نكتفي بفهم غرامشي أم ننطلق من أسئلته لنحدد علاقتنا بذواتنا وبالآخر وبالعالم؟ هل إن أسئلة غرامشي تقدر أن تحررنا من إعاقة تواصلنا مع الواقع وفهمه والسعي إلى تغييره إذ لا يكفي أن تفهم ول يكفي أن تتمثل الأسئلة لأن غرامشي علمنا فيما علمنا أن العلاقة بين إرادة الإنسان وبين الأوضاع التي ينبغي له تجاوزها لأنه بالضرورة ثمة اتصال بين الإنسان والأشياء التي ينتجها  

تقول جليلة عمامي في كتابها "الثقافي السياسي في فكر غرامشي" مستعيدة ومعربة لقولة قالها ادوارد سعيد

"إن غرامشي أكثر المفكرين تأثيرا فيّ وماشدني إليه بصورة بالغة الأهمية ليس فكرة الهيمنة أو المثقف العضوي بل فكرة أن كل شيء منظم على قاعدة جغرافية وفي مقدمة ذلك المجتمع المدني (...) كان هناك دائما صراع على الأرض"

من هنا نفهم أن تعامل جليلة عمامي مع الفلسفة لم يكن تعامل اعتباطيا ولم يكن صدفة وإنما هو نتيجة شعور بإشكال وجودي / حياتي تمثلت فيه وضعيتها الفتاة القادمة من ريف جنوبي والمسكونة بهاجس العدالة الاجتماعية تخوض تجربة صحفية فتجربة أخرى في العمل الثقافي وفجأة ترتطم أحلامها كما الموج على صخر أصم فتقرر النهوض وإعادة خوض المعركة بأدوات فكرية أكثر صلابة وبآليات فهم للواقع وإعادة ترتيبه متجاوزة المثاليات والرؤى الطوباوية .

لا غرابة حينها والأمر على ما هو عليه أن تخوض تجربة التأليف والكتابة والنشر لأنها تدرك أنها لن تكون صوتا مسموعا إذا لم تكتب ولن تكون صاحبة رسالة إذا تسترت على وعيها الأرقى .

ألم يقل ماركس فيما قال / "أن نجعل القمع أشد القمع بأن نضيف إليه وعي القمع " وأي إحساس أشد من الإحساس بالفشل وعدم بلوغ الغاية وتحقيق المنشود وان كان شرف المحاولة السيزيفية قد علمنا أن إعادة حمل الصخرة العظمى لبلوغ سدرة المنتهى أفضل من الاستسلام

ألم يعرف لوكاتش البطل الإشكالي بأنه ذلك الذي يسعى إلى تأصيل  قيم أصيلة في مجتمع متدهور فهل  كانت جليلة عمامي متمثلة قانون لوكاتش وكانت تدرك قانون المأساة تلك التي يخوض فيها البطل صراعا غير متكافئ فينتهي مهزوما ؟

نعم لقد خاضت جليلة عمامي تجربة تأصيل القيم الأصيلة في مجتمع متدهور ولكنها لم تنته نهاية مأساوية لأنها بكل بساطة خلدت ولم تمت بل انسحبت لتترك كتابا / لتترك أثرا / لتترك مايجعلها خالدة دائمة الحضور بيننا ومعنا من خلال مارسمت على البياض وما أراقت من حبر في أسفارها .

الثقافي السياسي في فكر غرامشي يعزز مدونة الكاتبة الفقيدة التي تحوم روحها هنا بيننا في هذه القاعة منصتة ’ مصغية لنا تتابع ما نقول فلروحك السلام ولكلماتك الخلود وحتما فان الشموع التي أوقدت تضيء العتمة وتبشر بأمل قادم من هناك


تعليقات