هل يخلُقُ المخلُوقُ الخَالِقَ؟ ‏

هل يخلُقُ  المخلُوقُ الخَالِقَ؟   
                                          
                                                         لمحمد مومن       

نصل بهذه الفقرات إلى المقطوعة السابعة التي انتخبناها من مقالة " غَيْمٌ عَلَى القِيَمْ "
     

            ولا شك أن حالة " الشَّجَنِ " التي آلت إليها شؤون الفن الدرامي لم تكن لتنبت من عدم بل نتجت عن مسيرة طويلة طالت شيئا فشيئا دعائم المسرح : لنتذكر، ولو علي سبيل المثال فحسب، ما أتاه أَلْفْرَادْ جَارِّي : ألم يسعى هذا الكاتب الدرامي الفرنسي إلى أن يكشف للبشر جنون البشر بأسلوب لم يكن لنا عهد به من السخرية المجنونة نقضت ورفتت ما ألفناه من مواثيق المسرح التي انتهت تحت ضرباته فتهاوت وانبطحت أرضا؟ لا بد من الاعتراف بأالدّمار كان مما لا يحْتَمله هذا الفن. لقد تنامت بصورة رهيبة ما يمكن تسميته ب " إنْشَائِيَاتِ الخَرَابِ " أو " جَمَالِيَاتِ الآثَارِ البَاقِيَة " أي " جَمَالِيَاتِ الأْطْلاَل " وهي شاءت أو أبت، عن قصد أو غير قصد، تعتمد رؤية ميتافزيقية للعالم لا ترى إلا اليَبَابَ والفراغ واللاَّشَيْء والعدم. لقد حوكِمَ الانسانُ الفرد وأُدِينَتْ  الإنسانية جمعاء، ووقع تقزيم قدرات اللغة وسلطتها، فَرُمِيَ بنا هكذا في ما سُمّته  نَتَالِي سَارُوت ب " عَهْد الشَكِّ " فودّعنا زمان اليقين واستقبلنا بل إننا احتضنّا أزمان الرِّيبَةِ فضاعت بلا رجعة الحقيقة. ثم اكتشفنا أن كل هذا الذي سمَّوْهُ " الحَدَاثَةَ " وفي ما بعد، ب " مَا بَعْدَ الحَدَاثَةِ "، ليس سوى مُقَدَّمَة وتمهيدا لما سنعيشه قريبا، في القادم من الأيام، تحت رايات " العَابِرِ للأنْسَنِيَّةِ " وبيارق " مَا بَعْدَ الأنْسَنِيَّةِ ". فكيف سيكون المسرح وتكون ملامحه؟ ما هي الأطوار التي سيعرفها والأدوار التي سيَتقمّصُها؟ أليس من البلاهة، من السخافة أو الحماقة أن نحاول قراءة هذا المستقبل الذي لا يُقْرَأ؟ لا استكشاف ولا استشراف! وفي هذا المجال، لا نرى " زَرْقاء اليَمَامَةِ " هناك. لا حول ولا حيلة لها، لا هي ولا غيرها. عاجزة تماما عن التنبؤات. صحيح أنه مستقبل جد قريب ولكنه مجهول وللكثير من الناس مُخيف رهيبٌ. وهو مُفزعٌ  مُرعِبٌ، ليس لنا عنه مَحِيدَ : أليس لكل هذا شَبَهٌ بما هو قَدَر محتوم؟ وفي الآفاق لا نرى سوى سماواتٍ تُغَيِّمُها حالِكُ الغُيومِ. أجل، هناك غِيَم  عَلَى القِيَم. 
          نرى سحبا مُدلهِمّةً تحوم في سموات الجماليات والأخلاقيات الابداعية. لا حاجة هنا للتنبؤ : فما علينا إلا أن نفتح أعيننا ولسوف نرى. إن الأبواب التي طرقتها البشرية هي بوابات الجحيم التي ستنتشر منها كائنات جهنميَّة لا قِبَلَ لنا بها. مثله مثل " بْرُومِثِيُوسٍ "، أو إن شئنا كما شاءت صاحبة " فْرَنْكِشْتَاِين "، مثل " بْرُومِثِيُوسٍ جَدِيدٍ "، تَرَى كما نَرَى والناسُ أجمعين، يَرَون الإِنْسَانَ، هكذا، بكل حماقة، يسَلَّم النار التي تَسَلَّمَهَا من الآلهة. نعم، نراه يهدي اللَّهَب المقدَّس والشُّعلة الربَّانية التي تسكنه ويَهِبُها بكل غباوة وسخافة، بلا رصانة ولا حصافة، بكل فساد عقل، إلى الكائنات الآلِيَّة التي اصطنعها، وهو يُنْشِدُ بنزق وطيش أن قَدَرَ الإنسان هو الكفرُ بالقدَرِ والثَّوْرَةُ على المصير: بكلام أوضح، إِسْقَاطُ السَّماءِ أرْضًا.     
    كان الإنسان- وهو من هو، عَبْدٌ مخلوقٌ- كَائِنًا خاضعا لمشيئة خالقه،  مُسَلِّمًا مصيره للأقدار، تاركا العَالَمَ لمشيئة بَارِئِهِ : أو ليس لله في خلقه شؤون؟ يَحْدُثُ أن يثور كما عند قدامى الإغريق وذلك عن كبرياء و" جُنُونٍ "، " جُنُونِ العَظَمَةِ " والتَّعَالِي، أو ما كانوا يَنْعَتُونَهُ في مسارحهم ب" الأُوبْرِيسْ "، تماما كما  عرفناه مع " أَنْتيغُونَا " و" أُودِيبْ " ، ولكن مآل ثورته كان دوما الخيبة والفشل، الشقاء والعذاب، والموت وأقسى العقاب. كان هذا في الزمن الأول، زمن السَّابقين وأساطير الأَوَّلينَ. ثم فجأة، في القرون الوسطى، إذا بالإنسان ينتفض. وها هو يُنَصِّبُ نفسه في عهد ما سُمّي أيَّام " النَّهْضَةِ " الأوروبيّة ب " سَيِّد   الطَّبِيعَةِ " و" رَبّ العَالَمِ "، بل قل " إِلَه الكَوْنِ ". وليس أدهى وأَمَرّ من هذا إلا ما نراه منه وهو يُعْلِن عاليا وبكل جلاء، بكامل الوقاحة وقِلَّةِ حياء، بلا خوف ولا وجل، دون رهبة ولا خشية، بصوت شيطاني " نِيتْشَاوي " أو قُلْ بنبرة " زَارَادَشْتِيَّةٍ "  كافرة، نراه ينعى في القرن التاسع عشر، واسْتَغْفِرُ الله فاسْتَغْفِرُوه، " مَوتَ اللَّه ". 
          وبموت الله، ماتت الحقيقة الواحدة المطلقة. وإذا بنا نجد عوض هذه " الحقيقة " المفردة " حقائق "، عديدة متعدّدة ونسبيّة مُبَعثرة مُشَتَتَة. تَشَتَّتَتْ رؤيتنا للكون، وتبعثرت نظرتنا للحياة. طغى العقل طغيانا كبيرا، فهَبَّتْ ريح العقلانية على جميع مجالات الفكر وطَوَّحَت بأنشطة العلوم، طبيعيّة كانت أو غير طبيعية، إنسانيّة أو لاإنسانيّة. ولا تَغُرنَّك تلك اللَّحظةُ الرُّومنطيقيةُ التي أرادت أن تثور على العقلانية، تلك التي حملت بعيدا " كْلَاسِيكِيَّة " القرن السَّابَع عشر رغم منافسة الموجة الفكرية والجمالية المسمّاة ب" البَارُوكِيَّة ". إنها صرخة لم تُغيِّر الكثير من المنظومة الإبِسْتيمولوجِيّة التي سادت حينذاك سيادة مطلقة. بموت الله إذن تَألَّه الإنسان وظنّ أنه آن الأوان له لكي يخلف خالقه في الأرض. ما هذا؟ أَيُّ شَيْءٍ هذا؟ (يتبع)

تعليقات