هكذا كنا نعيش

 

عز الدين المدني 


أحيانا كنا نتقدم ببعض الخطوات فتعترضنا محطة الرتل الكهربائي الذي ينقل أولاد البلاد إلى حلق الواد والكرم ودرمش وخير الدين والمرسى ’ هذه هي محطة الانطلاق للأرتال  وهي تقع قبالة مقهى فاخر أنيق لا ترى فيه إلا قبعات الرجال وقبعات العجائز المزينة بالأزهار وحب الملوك الصناعية ومحطة الرجوع إلى تونس النهائية بعد توقفات تؤديها الأرتال عند محطات الأحواز الواحدة بعد الأخرى إلى أن يصل إلى شاطئ المرسى.

إني أحب البحر شاطئ البحر والرتل الكهربائي وزمارته التي تنادي الركاب إلى الانطلاق وتمثل البحر ورمال الشاطئ والشمس والسباحة والناس والسباحين وجو الألعاب وأكل قلوب البطيخ والكاكوية المقلية حبة حبة وبائع الكريمة المثلجة يصيح بين مجموعات المصطافين ’ فنغطس في البحر ونسابق الأمواج الصغيرة الخفيفة التي تصل حتى رمال الشاطئ ...

وقبل سنوات من ذلك ’ وأنا لم تتجاوز عمري الأربع أو الخمس سنين كنا نسكن في فيلا لها جنينة بمكان كان يسمى ضربة السيف في ضاحية حمام الأنف’ فلكم قضيت أياما على الشاطئ ألهو وأبني الديار والأبراج بالرمال المبللة سرعان ما يأتي عليها الموج بعد الموج لإزالتها ولم يبق بها أثرا فأعيد الكرة ...تحت الشمس المحرقة وما عندي مايشغل بالي من الدنيا وما فيها  إلا جدتي رحمها الله تباغتني وتحذرني من الاقتراب من بناية قوية منيعة حتى أتجنبها لأن الألمان في أثناء هزيمتهم وطردهم من قبل الجنود الانقليز قد زرعوا الألغام ...وبعد سنوات طويلة عرفت اسم تلك البناية الألمانية القوية المنيعة واسمها بلوك هاوس .

أحيانا عندما يشتد قيظ النهار وتخلو أسواق  المدينة العربي من أصحاب الدكاكين والباعة والمارة وتأتي القائلة بظلها الظليل بالنعاس الهادئ اللذيذ فينهض والدي ويصلي صلاة العصر ويحملني معه إلى رتل المرسى سريعا سريعا . فنركب بين عدد لا بأس به من الركاب الجالسين على المقاعد الخشبية التي تصدر منها قزقزة إذا ما تحرك الرتل وزاد في سرعته ...

هكذا نتفرج على ميناء تونس على اليمين وعلى الشمال البحرية الراكدة الآسنة المياه حين تنفخ الرياح الشهيلي وغير الشهيلي تصدر عنها روائح كريهة تغطي جو تونس .

عندما يصل الرتل بنا إلى المرسى نقصد على الفور قهوة الصفصاف بخفة الخطو . هناك الجمل معصوب العينين يدور حول ناعورة لجلب المياه من البئر ’ على جانبها محبس وعليه حلاب يشرب ماءه البارد .رواد القهوة أفرادا وجماعات وهناك بدأت العشية تتنفس نسائم البحر الندية التي تهب خفيفة ظريفة من جهة الشمال تجفف عرقك وتنسيك هاجرة النهار . هناك في مكان بالقهوة معلوم من الجميع فلا يرتاده أحد سوى أصدقاء والدي . هناك نصل ونلاقي أحبابه متحلقين وعليهم بياض الجبائب القمراية وأمامهم على طاولة رخانمية كبيرة كؤوس التاي الأخضر المنعنع ’ وهم يدخنون الشيشة وسواقر التبغ’ وفيهم من يستنشق النفة . هناك تغني عصافير المقنين والكانالو في أقفاصها المعلقة بالقرب من حلقتهم وتفوح روائح الياسمين والفل والقماري ذات الزهرة الزرقاء الخزامى الشذية التي يبيعها الباعة مشاميم وخجلات وقلائد كما تفوح روائح الحبق من محابسها العديدة التي تزين كل ركن من أركان القهوة .

ويطلب والدي من صانع القهوة كأسا له من التاي الأخضر وفيه حبات البندق وكأسا لي من الليموناضة الحلوة بزيادة السكر لا حتى يشرق حلق من يشربها ’ ولا بد أن يكون مشروب الليموناضة باردا في برودة الصقيع.

وهؤلاء البلدية لا يرفعون أصواتهم في أثناء أحاديثهم ذلك على نقيض أهل الريف الذين يتخاطبون بأعلى أصواتهم .. ولا ينتظر والدي قدوم خميس الترنان على رأس جوقته لآداء قطعة مختارة من المالوف مغناة جماعيا/ أليف ياسلطاني ...ذلك أن صلاة المغرب قد قربت ولذا يجب العودة إلى تونس.

تعليقات