ماذا خسرنا بفقدان القراء المدمنين؟

 

عزالدين المدني



ما أحلى تلك الأيام كنت أجتمع أنا وصاحبي محمود بلعيد في حديقة "جناين قابس " وهي حديقة عمومية تقع بشارع باريس ونجلس على المقعد الخشبي العمومي ونقرأ معا ديوان المهجري ميخائيل نعيمة ’ ونشرح بعضا من أشعاره ومن مقطوعاته ’ ونتناقش حول المعاني ونحفظها بحكم إعادة القراءة مرات ومرات. وهذه الحديقة قد تغيرت منذ سنوات طويلة وقد زرعت فيها أشجار ونباتات الزينة والنخل ’ وفي الوسط نصب منحوت عظيم عملاق يمثل جنديا مسلحا من الجيش المحارب في الحرب العالمية الأولى قد نحته الاستعمار الفرنسي تخليدا لذكراه . ثم أزيل هذا النصب ومن أزاله قد لا يعلم أن فرنسا جندت التونسيين ومات الكثير منهم في الحرب من أجل فرنسا .

لماذا لم يتحول هذا النحت التذكاري إلى رمز للجندي التونسي المسكين الذي حارب لمناصرة فرنسا على بروسيا (ألمانيا) بينما هي حرب لم تكن تعني تونس بتاتا ؟ كما لم تكن تعنيها أيضا الحرب العالمية الثانية ولا الحرب التي انهزمت فيها فرنسا أمام جيوش الهند الصينية (الفيتنام) بقيادة هوشي منه .

إن القراءة ليست متابعة البصر لسطور الكتاب وإنما تعلم الكتابة ’ فإذا لم تكن الكتابة إبداعية فهي تدرب فكر القارئ على تركيب الجملة على الأقل وضبط التعابير وتدقيقها كما لدى كبار الكتاب والشعراء طبعا ’ وإحلال الكلمة في محلها اللازم حتى لا يعتريها قلق ولا خلط ولا اضطراب’ رغم أن الكلمة قد تنطوي أحيانا على طبقات من المعاني والإشارات وإيحاءات وأحيانا على إيقاع موسيقي منسجم الأصوات فيما بينها.

والقراءة ذات وظائف متعددة ومختلفة ’ فإذا كانت تعلم التفكير وتدربه عليه والتروي فيه على صعيد التعقل في الأغلب الأعم’ ذلك أن القراءة قد تكون تحفيزا للقارئ لكي يفكر بنفسه ويحل الإشكالات المطروحة عليه بما أوتي من صبر ونفاذ بصيرة وذوق جميل سليم واتساع أفق وعمق إدراك ’ بمعنى أن القراءة تتفاعل مع ملكات الإنسان وقدراته ومواهبه.

ولا شك أن القراءة لبعض القراء راحة وتسلية ولربما تمضية للوقت وقتله .ولا شك أيضا أن الكثير من القراء يلجؤون إلى القراءة مثلما يحتمون بالمخدر الذي يبنج مداركهم وقد لاحظتهم في مكتبة العطارين ثم في مكتبة نهج زرقون وقد كانت المكتبتان عموميتين مفتوحتين لعموم القراء. وإذا سألت بعضهم عن موضوع ما يقرؤون فان  لا يجيبونك مباشرة ويسعون لإيجاد مخرج لحرجهم..لأن قراءتهم سطحية آلية إن صح هذا التعبير ...

وقد كتبت في السطور السابقة ما عن لي من المعاني ’ ذلك أن القراءة أرحب مما ذكرت ’ فهي مجال معنوي واسع جدا فلا يمكن لي أن أحيط به في هذه الورقات ’ مثلما ذكرت ما قرأته من الكتب إنما هو مجرد أمثلة ونماذج لا غير ’ فاني لا أدعي الإحاطة رغم أني أتردد على المكتبة شبه يومية ولا أقل من ثلاث مرات في الأسبوع الواحد زيادة على زياراتي المتكررة للمكتبات التجارية التونسية والفرنسية حيث كنت أسأل عن الكتب الجديدة الوافدة على تونس حتى أني ارتبطت بالمودة مع أصحابها . ولقد كانت المكتبات التجارية التونسية زاخرة في سوق الكتب بشتى المعارف العربية العريقة والحديثة ’ كذلك الشأن بالنسبة للمكتبات الفرنسية فهي عامرة فائضة بالكتب مثل مكتبة صليبا في شارع فرنسا ومكتبة مدينة الكتب في نهج الجزائر ’ ومكتبات أخرى لا تقل أهمية وثراء عما ذكرت في الحي الأوروبي.

وقد ذهب كل هذا أدراج الرياح وزال للأسف الشديد في أيامنا هذه جراء فقدان القراء المدمنين وبسبب غلاء أسعار الكتب إلى ما لا يطاق أحيانا .

تعليقات