مع ابن خلدون

 


عزالدين المدني 


الحسرة في القلب عندما أتذكر مكتبات الكتب القديمة والمستعملة مثلا في شارع انقلترا وشارع باريس وشارع الحبيب ثامر اليوم روسطان زمن الاستعمار حيث تجد آلافا مؤلفة من سلاسل كتب الجيب التي كانت تباع بأبخس الأثمان .

فقد كانت الثقافتان العربية والفرنسية في متناول الناس ’ فتغريهم مع عرض وطلب كبيرين .

لا أتذكر متى وقع كتاب "المقدمة " لعبد الرحمان ابن خلدون لأول مرة بين يدي ولا ماهي المناسبة وكيف؟ ولماذا؟ وذلك قبل أن أبلغ سن المراهقة . أتذكر أن هذا الكتاب مصبوغ على ورق أصفر ...هل صحيح ؟

لقد كنت فيما بعد سنوات أتردد على زاوية الولي الصالح سيدي البشير عندما تتيسر لي الفرص أو الأوقات لأداء زيارة لأصدقائي الزيتونيين المقيمين بالزاوية إقامة مجانية ولوجه الله تعالى من قبل الوكيل ’ ولمجالستهم’ والحديث معهم.

ولاحظت في يوم من الأيام أن أحد أصحابي ينزوي في ركن من الزاوية وهو منكب على قراءة كتاب وغارق في قراءته فقلت له / ما هذا الكتاب ؟ أكتاب فقه أم نحو ؟ انتبه وأجابني / كتاب المقدمة لابن خلدون . ولكن كنت أعرف كتاب "المقدمة " لا كله بل نتفا منه فقط قبل زيارتي لأصحابي الزيتونيين . وكان يدور تلك الأيام كلام كثير عن ابن خلدون . فمن قائل انه مؤرخ عبقري لا يجود الزمان بمثله وقائل آخر انه تونسي مثلي ومثلك قد غادر تونس إلى بلدان الغربة والتشرد ومن يزعم انه كان حسودا كنودا كدرت قلبه الغيرة رغم انه كان عالما علامة ومفكرا جهبذا وكاتبا أكتب ؟

كانت هذه الأقوال والتقولات تروج كالشائعات في أوساط الزيتونة والمدرسة ’ ولكن من يصدقها ؟ والأغرب من كل هذا أن المدرسين الشبان كانوا يتساءلون / هل صحيح أن هذا الرجل أنجبته تونس ؟ كبيضة الديك أم كحليب العصفور؟

أهو تونسي ؟ وهل أنجبت تونس رجالا مثل المتنبي والمعري والجاحظ وابن المقفع منزلة وعلما ؟ كانت الريب تسود الأفكار في أوساط الزيتونة أيضا . كل هذا جعلني أتشوق لمعرفة ابن خلدون على حقيقته والاطلاع على كتابه "المقدمة " قال لي أحدهم يتهم نفسه بمعرفة ابن خلدون وزمانه وكتابه بأنه كان يسكن هو وعائلته في حي تربة الباي وهو حيي أنا حيث نبت وترعرعت .

إلا أن تلك الريب المشار إليها آنفا بدأت تنحل بعد المحاضرة التي ألقاها الدكتور طه حسين في القاعة الكبرى للبلمريوم . وقد حضرت في ذلك المساء الذي هجم فيه الطلبة الزيتونيون والمدرسيون الصادقيون على القاعة للاستماع إلى محاضرة عميد الأدب العربي الحديث ’ مما شكل حدثا ثقافيا بارزا في الحياة التونسية الجديدة .

تكلم طه حسين عن عبد الرحمان بن خلدون وأطنب بعض الإطناب في وصفه ومكانته وعلمه ’ هذا العبقري التونسي الذي أهدته تونس إلى شقيقتها مصر حيث قضى كبره وشيخوخته في القاهرة ’ وكان له مناك أتباع وتلاميذ ومريدون قبل أن يتوفاه الله .

وركز طه حسين على أهمية عبد الرحمان بن خلدون وخطره الثقيل في الفكر العربي في عصره وبعد عصره إلى هذا اليوم .

لم ينتبه التونسيون كالعادة والمعتاد إلى الإنسان المهم الذي يعيش بينهم فلا بد أن يلفت عنايتهم أحد من الأجانب والمستعمرين إلى ابن بلادهم وثقافتهم وتاريخهم ’ ولأنه استثناء في زحمة الضحالة والرداءة ليس من تلك الكثرة بل القلة القليلة بل التفرد الشخصي . ومشهور ماجرى له من خصام ونكران وثلب عندما رجع إلى بلده تونس على عهد السلطان أبي العباس احمد الحفصي ’ فأرغم نفسه بتعلات واهية على الخروج من وطنه ومبارحته وليبقى في الخارج إلى الأبد . يالها من مأساة ...        

 

تعليقات