قراءة عجلى في ‏مسرحية ‏الروبة ‏لحمادي ‏الوهايبي

بقلم : محمد المي
بعد مسرحيتي "الصابرات" و"جويف" يختار حمادي الوهايبي أن تكون مسرحية " الروبة" ثالثة الأثافي التي قدمت مساء 26 جانفي 2021 بقاعة "التياترو" بنزل المشتل بتونس العاصمة .

ملخص المسرحية

ينهار سقف قاعة المحكمة فجأة نتيجة عمل ارهابي  فيجد كل من في قاعة المحكمة أنفسهم لاجئين في دهليز مظلم يصعب الخروج منه : 

مجرم وقاضية وأربعة محامين في خندق واحد وقد استوى الكل حيث أجبرتهم وضعيتهم الجديدة على مواجهة الكل للكل والتنافذ والتحادث ورؤية الأشياء من زاوية جديدة فرضتها الوضعية الجديدة .

لا حاكم ولا محكوم ولا محام بينهما وهنا ينكشف المستور ويتجلى المخفي ويفتضح المكنون . فاذا "الروبة " التي كانت ساترة للعيوب وخافية للذنوب تعري لابسيها وتسوي بين الحاكم والمحكوم لتنتهي احداث المسرحية بأن الكل مجرم ومخالف للقانون ولابس " الروبة " اجرامه أنكى وأفضع .

دلالات المكان في مسرحية الروبة

فرضت الوضعية الطارئة على النزول الاضطراري لشخوص مسرحية الروبة إلى دهليز مظلم ،خال . وهنا يساوي الظلام بين سواد الروبة أو العباءة السوداء التي يرتديها المحامون والقاضية والمجرم الذي لا يرتدي الروبة/ العباءة . فلم يعد حادث الهبوط من الاعلى الى الاسفل فقد قد ساوى بين الجميع بل ان الظلام الذي سيطر على المكان ساوى كذلك بين الجميع. لا معنى الروبة من عدمها .

وجود الدهليز في الأسفل ( تحت الأرض) كالقبر الذي سيكون مأل الإنسان ونهايته المحتومة وكما يساوي القبر بين جميع الناس فقيرهم وغنيهم ٫ ذكورهم واناثهم ٫ حاكمهم ومحكومهم ، فأن الدهليز اضطلع بالوظيفة نفسها . 

لم تعد روبة / عباءة المحامي تختلف عن روبة/عباءة القاضي في شيء ...كما ان المجرم الذي لا يلبس روبة/عباءة لا يعني شيئا في مكان سفلي  '  مظلم ..هنا يسهل التعري ،فيكون الكشف أو الانكشاف .وهو ما عمد إليه محرج المسرحية ليكشف الكل أمام الكل ويعري الكل أمام الكل . فالوضعية السفلية متعمدة ومقصودة لذاتها .

لقد اضطلع المكان بوظيفة رئيسية في المسرحية حيث كان محركا أساسيا للاحداث بل فارضا لتحول الشخوص من وضعيات الى أخرى . بل يمكن اعتبار المكان شخصية أساسية ،محورية في مسرحية الروبة . المكان ليس مجرد فضاء نمت فيه احداث المسرحية بل رمزيته وطبيعة وجوده السفلي سيكون محددا لاكتشاف أسفل ما في شخصية شخوص المسرحية وسفالتهم الاخلاقية والاجتماعية ووضاعة نفوسهم . 
رمزية المكان محددة ومتماهية مع الفكرة التي يهدف العمل الى التوصل إليها والرسالة التي يروم صاحب العمل ايصالها وتبليغها .

إنقلاب الزمان في مسرحية الروبة: 

مثلما ساعد المكان في التسوية بين جميع شخوص مسرحية الروبة فانه ساعد كذلك في فرض زمان غير الزمان الحقيقي اذ الزمان الواقعي هو النهار اذ ان المحاكمة تتم بالضرورة في ساعات النهار حيث النور والضوء فاذا بإنهيار سقف المحكمة والتفجير الحادث فرض على شخوص المسرحية النزول والهبوط الى الأسفل حيث الظلام الحالك والسواد القاتم . ليل غير الليل . ليل لا نور فيه الا بعض الضوء النافذ من شبابيك سفلية .

ظلام المكان كسواد الروبة / العباءة وسوادهما كسواد واقع الشخوص وحقيقتهم المخفية ...الكل غارق في سواده يأبى الكشف ويرفض التعري ...النور مكروه ..والضياء مذمود ..قتامة الواقع كقتامة الحقيقة لذلك فان الوضع الانسب للجميع هو الظلام للتخفي وعدم التجلي . 

لقد اصبح الظلام المذموم مطلوبا لذاته هو الآخر فبعد أن فرضت الوضعية الجديدة الظلام وحولت النهار الى ليل  . اصبح من الأفضل للجميع ديمومة الوضعية الجديدة للستر والتستر .

لقد تظافر المكان والزمان لدفع احداث النص ومساعدة شخوص المسرحية للتطهر من ادران واوساخ طالما تلطخت بها حياتهم المزدوجة .

شخوص تستبطن شخصيات بائسة

يتيح المكان الشبيه بالقبر للشخصيات التي اجتمعت فيه مضطرة ان تتعرى الواحد تلو الآخر ، فالقاضية زوجة لأكبر مهرب اي انها تضاجع الفساد وتتستر عليه وفيما هي تحكم بين الناس وتصدر احكام القانون وتقدر الجزاء والعقوبة تتجاهل واقعها وتتغاضى عن زوجها الذي يساكنها ويعايشها فتنظر الى أخطاء الناس وفسادهم وتعمى بصيرتها عن تواطئها مع الفساد .

والمحامية التي تمارس العهر الاخلاقي وتتورط في صفقات مشبوهة غايتها جني المال شعارها الغاية تبرر الوسيلة كل شيء يمكن توظيفه واستخدامه للوصول إلى الهدف

والمحامي الذي تعلم من دروسه طلبة الحقوق ومرافعاته زملاؤه من المحامين وانبهر بصولاته وجولاته قضاة المحاكم هو أكبر الفاسدين استخدم القانون لتبرير فساده الاخلاقي والمالي وايجاد مبرر لجشعه اللامتناهي .

والمجرم الذي سلطت عليه القاضية عقوبة سالبة للحرية بسنتين سجنا لجرم اقترفه نتيجة وضعه البائس فكنيته : " ولد البطرونة " (القوادة) فهو ضحية من ضحايا مجتمع فاسد لم يختر اسرته ولا بيئته ولا مجتمعه ولا اسمه فكان نتيجة طبيعية لواقع مأزوم وافرازا طبيعيا لما يمكن ان يكون عليه من كان في مثل وضعيته . 

فيما استغل الكل وضعية الدهليز للتعري فأن المجرم استغلها للخروج والهروب وابتزاز القاضية لقلب الحكم الصادر ضده . مطلبه بسيط وهمه أبسط وخطره أقل من خطر لابس العباءة والساهر على تطبيق القانون . 

هنا يطرح السؤال الأنكى : مالقانون ؟ هل هو مجموعة من الأحكام والفصول ؟ 

القانون يعرف عمومًا على أنه نظام من القواعد التي يتم إنشاؤها وتطبيقها من خلال المؤسسات الاجتماعية أو الحكومية لتنظيم السلوك،  فاذا به في مسرحية الروبة يوظف للتغطية عن الفاسدين وتبرير فسادهم 

الانقلاب في المفاهيم ، في القيم ، ..حينها يكون الدهليز هو المكان الطبيعي والظلام هو الوضعية الطبيعة فلم تعد الروبة /العباءة رمزا للعدالة بل هي لتغطية الفاسدين وحمايتهم من العدالة ووسيلة للتلاعب بالقوانين . 

نطرح سؤالا - لا نروم الإجابة عنه - لماذا أختار حمادي الوهايبي هذا الموضوع ؟ 

لقد أختار في " الصابرات" فئة المومسات بوصفهن اقلية اضطهدها المجتمع الجديد بعد ثورة 14 جانفي 
واختار في " جويف " فئة اليهودي الأقلي المضطهد والخائف من الثورة والذي يفكر في الهروب من تونس الجديدة مقابل اليهودي الساعي الى نهب تراث البلاد لنقله إلى بلاده الجديدة . هنا نتساءل عن إختيار أصحاب الروبة / العباءة السوداء الذين تغولوا بعد الثورة ووجدناهم في مواقع القرار الأولى والماسكين بالاحزاب والجمعيات والبرلمان...الخ ؟ 

مسرحية الروبة تشير وتلمح ولا تصرح ولا تطرح البدائل بل تبث الحيرة وتزيد في "دوزاج" القلق وترفع نسق التفكير في واقع مأزوم يجدر بنا النظر إليه بعين واخرى وبذائقة مختلفة . 

عمل فني نحكم له ولا نحكم عليه بلا عباءة سوداء بل بحبر أسود سواد واقعنا الذي نحيا .

تعليقات